ما إن اشتعلت حرب الخامس عشر من نيسان/أبريل 2023 في السودان، والتي فجرت أعمق تناقض في بنية قوى عنف الدولة بين الجيش وما ظل ينعت على أنه "قوة ساندة خرجت من رحمه"، حتى رأينا اللواء ياسر فضل الله قائد الفرقة (16) مشاة بنيالا يبعث تهانيه من قُمرة القيادة إلى اللواء ركن نصرالدين عبدالفتاح العائد من جديد لقيادة المدرعات، مثمنًا القرار الذي أرجع -بحسب وصفه- سلاح المدرعات إلى عهد عراقته، والباعث على "رفع المعنويات". وبدا الامتداح الذي ساقه "الشهيد ياسر" أكثر من مجرد تقريظ أملته روابط الإخاء العسكري وعلائق المجايلة إلى ملامسة حدود الترميز والنظر إلى اللواء نصرالدين ليس بوصفه قائدًا عسكريًا لا يشق له غبار، وإنما باعتباره علامة فارقة في الانحياز المبدئي لمنطق المؤسسة ونطاق عملها بحسبانها قوام الدولة الحديثة وناظمها الرئيس ومدار تعريفها بالوظيفة المحتكرة للعنف الشرعي في إطار حكم القانون.
من اللواء ركن ياسر فضل الله........الي اللواء
ركن دكتور نصر الدين عبدالفتاح قائد سلاح
المدرعات pic.twitter.com/rtaJOWwNi2— 𝕐𝕒𝕤𝕚𝕣 𝕄𝕠𝕤𝕥𝕒𝕗𝕒 (@YASIR_MOS91) April 19, 2023
من هو اللواء نصر الدين عبد الفتاح
تقول البيانات الرئيسة حوله أن اللواء ركن د. نصر الدين عبد الفتاح محمد سليم، هو ضابط مدرعات من طراز متفرد، تخرج ضمن الدفعة (36) في نهاية الثمانينات وقبل قيام انقلاب الإنقاذ 1989، وعمل بكل أقاليم السودان، كما عمل معلمًا بمعهد المدرعات ثم كلية القيادة، وموجهًا بأكاديمية نميري العسكرية العليا، وتلقى تأهيلًا عاليًا في الدروع داخل وخارج السودان.
قاد اللواء ركن د. نصر الدين عبد الفتاح محمد سليم معهد المدرعات والفرقة (18) مشاة وسلاح المدرعات، وامتاز خلال سني عمله بالمبالغة في الانضباط وتغليب الحس المهني والاعتبارات العسكرية
قاد عبدالفتاح معهد المدرعات والفرقة (18) مشاة وسلاح المدرعات، وامتاز خلال سني عمله بالمبالغة في الانضباط وتغليب الحس المهني والاعتبارات العسكرية والالتزام بالقيم والنظم المؤسسة للسياق الاحترافي العسكري إلى درجة "لزوم ما لا يلزم" أحيانًا، كما أفاد زملاؤه ومعاصروه.
تفيد معلومات متطابقة أن اللواء نصر الدين لم ينتم إلى تنظيم الإسلاميين المحاط بسياج من السرية داخل المنظومة الأمنية بعد أن تراجع دوره بصورة كبيرة في إطار صراع أقطاب السلطة في أعقاب المفاصلة الشهيرة في العام 1999، وقد أخرجت الشيخ الترابي والكثير ممن وصفوا بالعناصر الأيديولوجية في القوة الصلبة، إذ يُنسب إلى وزير الدفاع السابق عبدالرحيم محمد حسين -بإيعاز من البشير- دور مفصلي في كفكفة نفوذ التنظيم العسكري، وتشير كثير من القرائن إلى أن المكون الإسلامي داخل الجيش لم يعد يملك أي مفاعيل عيانية دالة على سلطته وتأثيره مع اتجاه مسار الأحداث إلى الخروج من دولة المشروع إلى مشروع الدولة، واستعادة الاعتبار الوظيفي في مقابل الرسالي، وهو ما يسترجع بالضرورة فعل النظام المؤسسي في مقابل تدابير التنظيم وتقديراته وتحركاته. في هذا الظرف برز اللواء نصر الدين عبد الفتاح مأخوذًا بالتقاليد العسكرية الصارمة بإجرائياتها وسلسلة أوامرها والامتثال التام لقراراتها، إذ لم يعرف عنه سوى الالتزام العام والانضباط بالمدونة السلوكية المحافظة المتماهية مع الإطار القيمي والسمت والأخلاق العمومية، وبنحو عام يرى المحبوب عبدالسلام المثقف المعروف في حوار منشور بـ"الترا سودان"، أن أهم مقاتل الإسلام السياسي خلو عقيدته من أي مضمون في الاقتصاد السياسي سوى العاطفة الدينية، مما يجعل من ينتمي إلى مؤسسة الجيش أرسخ انتماءً إليها لأن نواظم العصبية العسكرية أقوى من عاطفة الجماعة الأولى ولا تناقض عاطفة الدين، فيغدو عسكريًا في المقام الأول ثم إسلاميًا في المقام الثاني. ولأن اللواء نصر الدين لم يكن منتسبًا للتنظيمات العقائدية التي اخترقت الجيش في أوقات متباينة، كان أكثر ارتباطًا بالهوية العسكرية وتقاليدها كما تقول سيرته وكما تبين مواقفه التي اتخذها في أوقات مفصلية حاسمة.
خلافات مع الدعم السريع
يرى مراقب لصيق للشأن العسكري فضّل حجب اسمه أن اللواء نصرالدين وقف بالضد من الدعم السريع مذ بواكير نشأته، ورأى حينها أن الرئيس البشير ارتكب أكبر خطأ بإنشاء منظومة أمنية على غير أسس مهنية ولأغراض سياسية سلطوية، وأن ما جرى من خلاف تفصيلي على مواقف محددة فرع عن هذا التصور، و"حكم الشيء فرع عن تصوره" كما تقول القاعدة الفقهية. ولا يقرأ الخلاف الكبير والذي اتسعت رقعته مع انقلاب بكراوي واشتراك عناصر من المدرعات أودعوا بموجبه السجن -بل إن أحدهم وهو العقيد مأمون خرج من المعتقل ليقود معركة صك العملة ويقضي مدافعًا عن محيط المدرعات- لا يقرأ هذا الخلاف إلا في سياق عودة تيار الاحتراف، وتبلور رفض الاختراق الحزبي والتسييس، وإن كان ثمة طموح شخصي فهو مرتبط وناشئ في خضم هذا الأمر.
ويقول مصدر خاص لـ"الترا سودان"، إن مرد الخلاف الشهير بين قائد الدعم السريع واللواء نصر الدين سببه الرئيس مرتبط بعدد من المدرعات كان قد تم تسليمها لحميدتي في سياق مهمة قتالية في دارفور ضد الحركات، حيث طالب اللواء نصر الدين فور تكليفه باستردادها إلى عهدته، فتمنع الجنرال حميدتي ووضعها في منطقة الزرق، وتدخلت قيادة الجيش لصالح قائد الدعم السريع. هذه المدرعات هي نفسها التي أحضرت قبل اندلاع الحرب ووضعت في المدينة الرياضية، وحولها دارت أول معركة، وأطلقت أول رصاصة يوم الخامس عشر من نيسان/أبريل 2023.
ويشير ذات المصدر إلى أن حميدتي سبق أن أرسل عددًا من العربات المدججة وحاصر سلاح المدرعات، فما كان من اللواء نصر الدين الذي كان يحتسي كوبًا من القهوة، سوى أن أمهل عناصر الدعم السريع المحيطة بسلاح المدرعات بالانسحاب أو الضرب في "المليان" مقدار فراغ "كوب قهوته"؛ فآثروا الانسحاب. هذه الحادثة ألقت بظلالها على طبيعة العلاقة مع الدعم السريع؛ ليس كقوة ساندة تعمل في إهاب القوات المسلحة وتسير تحت ظلاله، وإنما كقوة عسكرية منفصلة لها رؤيتها وقيادتها وطموحها السلطوي في أعقاب الفراغ الذي أوجدته ثورة ديسمبر والاستثمار في صناعة سردية "الكيزان"، والنظر إليهم مشجبًا مناسبًا لتعليق الأخطاء والخطايا ورد كل الاختلالات إليه.
تيار الاحتراف والمهنية بالجيش السوداني
يمثل اللواء نصر الدين -العائد صعودًا على منطقه المؤسسي- تيار الاحتراف والمهنية، وهو الذي لم يخضعه لموازنات القوة ولم يساوم عليه في أحلك الظروف وأصعب الأوقات، ووصف دائمًا في سياق النظر إلى تميزه بلزوم ما لا يلزم أحيانًا في الانضباط بمعايير العسكرية الصارمة والامتثال لتراتبيتها وسلسلة أوامرها والابتعاد عن الجدل وإفشاء الأسرار، وهو أمر لم ينكره، وذلك لأسباب تنطوي على جذر جيني سلالي عززته أنماط التربية ومنطق العمل العسكري "البيان بالعمل"، وربما ظهر هذا في توضيح موقفه إبان خلافه الشهير مع قيادة الدعم السريع ورده على ما أورده الجنرال حميدتي في حوار شهير بقناة (سودانية 24)، بأن قوات الدعم السريع أفشلت تحركًا من المدرعات قوامه (13) دبابة مشونة بكامل عتادها كانت في طريقها إلى فض الاعتصام، وهو ذات الاعتصام الذي يرد كثير من الفاعلين السياسيين والمدنيين عملية فضه إلى قوات الدعم السريع. وركز اللواء نصر الدين على رفض الاتهام دون تزيد، مبينًا أن سلاح المدرعات "لم يقم في سجل تاريخه بتوجيه سلاحه صوب المواطنين بقدر ما بذل جهوده المشهودة في حمايتهم كما فعل المقدم حينها جعفر نميري في حماية ثوار أكتوبر 1964".
حرب "15 أبريل"
وظهر اللواء نصر الدين في صبيحة 17 نيسان/أبريل الماضي مؤكدًا على حقانية الجيش في الدفاع عن الوطن والمواطنين، ثم توالى ظهوره ليؤكد على ذات المعاني في يوم 18 تموز/يوليو، ثم ظهوره متحدثًا في تجمع للجنود بجامع المدرعات يوم 17 تشرين الأول/أكتوبر، مشيرًا إلى ضرورة بناء العلاقات الخارجية على أسس المصالح المشتركة وتجاوز الكلام العاطفي المتعلق بوحدة المصير، منددًا بخذلان دول -لم يسمها- قال إن السودانيين "ساهموا في بناء نهضتها ولم يلق منها إلا العدوان"، وذلك قبل أن يظهر يوم 19 تشرين الثاني/نوفمبر مبشرًا بدنو أجل معركة الكرامة واقتراب النصر الذي لاحت بشائره، كما قال مؤكدًا أن "تحرير الخرطوم سيبدأ من المدرعات".
قائد المدرعات اللواء دكتور نصر الدين عبد الفتاح: سنفرض الأمن والسلام في جميع ربوع البلاد#Khartoum #sudan_update | #KeepEyesOnSudan | #أحداث_السودان | #أوقفوا_الحرب | #الخرطوم | #Sudan pic.twitter.com/VOk3L9Afcx
— SUDAN السودان (@Sudan4you) April 17, 2023
وأفاد مصدر متابع، لـ"الترا سودان"، أن اللواء نصر الدين كان قد أصيب في يده جراء التدوين الذي تمارسه قوات الدعم السريع على المدرعات، والذي قضى بسببه اللواء أيوب وعدد من الضباط والجنود، مشيرًا إلى أن قيادة نصر الدين الرمزية أفعل من إدارته التخطيطية للمعارك، رادًا صمود المعسكر إلى استبسال العناصر المقاتلة فيه أكثر من كفاءة تخطيط القيادة، وذلك برغم تميزها في المدرعات واتسامها بالاستقامة المهنية والسلوكية.
ولا يمكن قراءة دور اللواء نصرالدين في مجرد إدارته لمعركة ناجحة وصمود معسكره في مواجهة أمواج متتالية ومتواترة من هجمات ما يسميها "قوات متمردة" خرجت على سلطان الجيش الذي يعتبره الممثل الشرعي والأوحد للدولة، وإنما في تبلور تيار الاحتراف والمهنية المضاد للتسييس والاختراق التنظيمي والمناقض لاستمرار ما برز مؤخرًا في خطاب مؤسسة الجيش الرافض لمنطق التمليش، أو ما أسماه الناطق الرسمي للجيش بـ"ضرورة إيقاف أعمق تشوه في بنية الدولة ومنظومتها العسكرية"، وهو أمر لا تسعفه سرديات "جيش الفلول" وإيهام الناس بأن مجرد طلقة أولى يمكن أن تشعل حربًا ضارية كتلك التي تمتد كل يوم في ربع جديد في حواضر وقرى السودان.