30-أغسطس-2022
أبو عركي البخيت

أبو عركي البخيت

ارتبط طريق الشرق الذي يربط ولاية الجزيرة بالعاصمة الخرطوم، ارتبط عندي بقصص ودروس عن الغناء والموسيقى التي اعتاد والدي أن يقصها علي وهو يقود على طول الطريق. قبل سنين عديدة أذكر أنه طلب مني أن أستمع جيدًا إلى الأغنية التالية، ثم أخبرني أن النظام السابق قد حجب هذه الأغنية عن العرض في العام 2010.

عركي ليس مجرد مطرب فحسب، بل هو أكثر من ذلك، هو أسلوب حياة، فيلسوف زاهد، ورجل وطني

بعدها خرج صوت أبوعركي البخيت إلى الحياة من سماعات السيارة أو ربما أعطى الحياة للسيارة، لست متأكدًا؛ لكنني متيقن من أن صوته كان ينهمر بانسيابية عجيبة، ظللت بعدها أحاول إبداء إعجابي بهذا الصوت "النشاز" لكن أبي -كعادته- نجح في اختصار ما أريد قوله في جملة واحدة: "عركي حتى حديثه العادي غناء".

بعد سنوات من هذا الموقف، وجدت نفسي مع أصدقائي في الصفوف الأمامية للمسرح القومي بأم درمان في انتظار وصول الشخص الأعجوبة نفسه الذي اعتدت الدندنة وراءه. في ذلك اليوم كنت -كما الآخرين- أحاول فقط المشاركة في حفل تأبين الدكتورة عفاف الصادق وإظهار القليل من الامتنان لرجلٍ أظهر الكثير من الحب تجاه بلادنا، لكنني لم أكن أعرف أن إعجابي بعركي في ذلك اليوم سيتعدى حدود الغناء فقط، لم أكن أعرف أنه سيبثُ في نفسي فلسفةً من نوع ما.

https://t.me/ultrasudan

منذ الأمد وقفَ الموت -كمفهوم- في وجه المفكرين والفلاسفة، ونال رصيد الاهتمام الأكبر عبر كل العصور، ومع ذلك حافظ على خصوصيته وقدسيته، وربما أدى هذا الاهتمام إلى ربطه مباشرة بالتفكير والاستسلام لكونه شيئًا لا يقبل التأطير. لكن الفيلسوف الفرنسي مونتاني قال جملةً عظيمةً من شأنها إضافة فهم لهذه الحتمية: "أن نتفلسف يعني أن نتعلم كيف نموت". هذا الفهم العميق للموت كان نتاج العديد من التجارب الفلسفية الرواقية (Stoicism) التي قادها المفكر اليوناني زينون السيشومي، في أثينا قبل ميلاد المسيح بثلاثة قرون. وتستمد الرواقية فكرها من فهم الطبيعة والتناغم معها ثم إلى مرتبة أعلى بأن يصبح المرء أقوى من الشهوة وأشجع من الخوف. رفع الرواقيون أو فلاسفة المظلة شعار "الفضيلة هي الخير الوحيد" وكل شيء آخر يندرج تحت الفضيلة نفسها، حيث يمكن استخدام المادة لتحقيق مفهوم الفضيلة المطلق، لكن ما علاقة كل هذا بأبوعركي؟

بالعودة إلى حفل التأبين، ظهر أبوعركي بعد تأخيرٍ بدا مفهومًا فور اعتلائه المنصة؛ فقد نالت ملامح الإعياء من وجهه الملتحي، لكنه أتى مرتديًا قميصًا أزرق يدعو إلى الحياة، ورغمًا عن ذلك كان لحزنه هالةً تطفو عبر المسرح ومقاعد الجمهور. كسر أبوعركي الصمت بجلد الموت وتأكيد وجود عفاف حتى وإن غابت جسديًا، ومثّلَ قول دافيد شابيل: "أن نعيش في قلوب من يحبوننا هذا يعني أننا لم نمت". بعدها صارح عركي الحضور بآخر ما قاله لزوجته الراحلة: "جملتيني، اديتيني البُعد المفروض والداير أكونو على الإطلاق في تكويني، ساهمتِ معاي بأني أكون أجمل إنسان بتشوفو عيونك.. يا عيوني". طرد عركي الموت فورًا، ربما نجح في التماسك والاحتفاظ بصلابته؛ لكن ما قاله عن مساعدتها له في تحقيق بُعده المفروض أو ذاته المنشودة، يعني تنازلًا عن النفس من أجل الوصول إلى الفضيلة. ما شد انتباهي أيضًا بعيدًا عن الفلسفة والموت والحياة أن صديقي همس لي في أذني: "عركي كلامه غناء".

بصورة عفاف بالقرب منه كما كانت دائمًا، بدأ عركي حفل التأبين بأغنية "تعالو نغني"، الأغنية نفسها التي أخبرني عنها والدي سابقًا. فكرتُ وقتها لماذا لم يبدأ بأغنية أخرى مثل "من معزتك" التي كتبتها الراحلة نفسها أو أغنية "واحشني" أو حتى "يوم رحيلك". ظللت أفكر لأيام بعدها حتى بدا الأمر واضحًا، قبل أن يشرع في الغناء قال عركي: "كل ما تبقى لي هو وفاءك أنت يا شعبي"، آثر عركي إرسال رسالة للشعب السوداني الذي كان يمر بفترة حرجة سياسيًا. وعرفتُ بعدها أن الدكتورة عفاف هي أيضًا كاتبة أغنية "تعالو نغني"؛ فكانت الأغنية لها وللشارع وإحياءً للفلسفة الرواقية التي تصبو تقبل الحاضر وكبح الألم، فلا يوجد تكريم أفضل للراحلين من تخليد الأشياء التي يحبونها، وبالنسبة إلى عركي فقد كان يعلم قيمة الوطن عند زوجته.

وفقًا للعديد من المصادر المختلفة، فإن مسألة التفكير في الموت داهمت العديد من الناس في العصور الوسطى، وكُتب فوق الساعات العملاقة عبارات مثل: "ربما كانت تلك هي ساعتك الأخيرة". لم يكن الحال مغايرًا بالنسبة إلى الملوك، فعلى سبيل المثال، كانت ماري ملكة إسكتلندا تحمل معها طيلة الوقت ساعة مكتوبًا عليها: "يطرق الموت الشاحب بالإيقاع نفسه على أكواخ الفقراء وبيوت الملوك". حاول كل من عركي والدكتورة عفاف إيصال هذه الفكرة من خلال أغنية "تعالوا نغني" عبر المقطع الذي يتجلى فيه عركي: "يا حكامنا الدنيا عجول.. يا ساستنا الدنيا عجول.. يا جنرالاتنا الدنيا عجول.. يا سادتنا الدنيا عجول".. ولكن لا حياة لمن ينادي، بل تم حجب الأغنية من العرض ضمن حفل العيد للعام 2010 ولذلك فإن ترديد عركي لهذه الأغنية كان انتصارًا لزوجته ولشخصه والأهم من ذلك انتصارًا للوطن.

يتم النظر إلى كلمة "يودايمونيا" إلى أنها أعلى مراتب الفلسفة الرواقية وهي كلمة يونانية تعني الازدهار الإنساني واصطلاحيًا تتكون الكلمة من "يو" بمعنى جيد و"دايمون " ويقصد بها الروح؛ أي روح جيدة. في ألم فقدان رفيقة دربه عبر مرثية "فلسفة الموت" يحكي عركي نضاله ضد الوجود الذي يشهد غيابها ويؤكد أنه: "عشان أتآلف وأتوازن مع واقع مُر.. أتمنى كمان ما أفقد قدرة تخوني أعيش لي ناس مني ومنك ياعفاف"؛ هنا وبكل حزم ينفض عركي غبار الحزن لأجل غاية سامية، لأجل أبنائه، وهنا تحديدًا وصل عركي إلى أرض الـ"يودايمونيا".

حب عركي لعفاف أعظم فضيلة ممكنة، ولا شيء يمكنه كسر هذا "القوس" ولا حتى فلسفة الموت

بالنسبة إليّ، فإن أبوعركي ليس مجرد مطرب فحسب، بل هو أكثر من ذلك، هو أسلوب حياة، فيلسوف زاهد، رجل وطني وأرى أن أكبر فضائله ليست هذه الفلسفة الرواقية التي حاولت إيجاد صلةٍ له بها، لكنني وبكل صدق أرى حبه لعفاف أعظم فضيلة ممكنة، ولا شيء يمكنه كسر هذا "القوس" ولا حتى فلسفة الموت.