حكى لي صديقي الموظف الأممي قصة طريفة حدثت له أثناء عمله في العاصمة الكينية نيروبي، خلال السنوات الماضية. قال إن أحد أصدقائه في السودان تزوج وأخبره بنيته في السفر إلى القاهرة لقضاء شهر العسل، ومن باب التغيير والاكتشاف اقترح عليه صديقي أن يأتي إلى نيروبي بدلًا عن القاهرة؛ فنيروبي جميلة وكينيا الآن تعد من الدول السياحية الجاذبة على مستوى العالم. استجاب العريس وأبدل وجهته من القاهرة إلى نيروبي، وقضى هناك أجمل أيام العسل، مستمتعًا بالطبيعة الساحرة والخدمات السياحية والفندقية المبهرة، وحين شارفت أيامه على الانقضاء أقام له صديقي مأدبة محترمة احتفالًا به وبالعروس الجميلة، وفي بيتهما النيروبي الأنيق استقبل صديقي العروسين المبتهجين بكرم الضيافة ولطف المضيفين. وفي نهاية السهرة – المأدبة قال صديقي إن زوجته أمريكية الجنسية؛ أرادت أن "تتونس" مع العريس وتسأله عن رحلته وإن وجد ذلك الفارق بينها وبين رحلة القاهرة، فأبدى العريس فرحه وامتنانه للدعوة وقال لها ضمن ما قال: أنا شاكر جدًا لكما، فهذه هي المرة الأولى التي أزور فيها أفريقيا! أصيب صديقي بالحرج وهو يرى علامات الحيرة تغطي وجه زوجته الأمريكية. وكأنها توشك على سؤاله: من أين بلد أو قارة جاء صديقك؟
اهبطوا مصر
في الأيام الأولى لحرب الخرطوم، خرجت الكثير من الأسر فارة باتجاه مصر، خروج مدهش تداخل مع عمليات الإخلاء -المنذرة بالجحيم- للبعثات الدبلوماسية والأممية وللجاليات الغربية والعربية ومن مختلف دول العالم. مئات الأسر انطلقت فجأة ودون سابق إنذار في رحلة شاقة صوب أرض مصر، متخذة من المسار النيلي القديم سبيلًا لها وكأنها تستعيد رحلة عكسية لاكتشاف منابع -مصب النيل- في القارة الأفريقية المجهولة حينها قبل مئتي عام من هذه اللحظة. أسر كثيرة وكبيرة، ساعدتها ظروفها المتيسرة وسهولة تحركها في الهروب من الخرطوم وتجاوز الجدار الوهمي الفاصل بين السودان ومصر، عبروا مخلفين وراءهم دهشة وصدمة: دهشة لدى من رأى أن تصرفهم مبالغ فيه وينم خوف وتسرع غير مبررين، فالحرب لن تستمر طويلًا وما هي إلا أيام ثم تتوقف، فـ"الخرطوم محروسة يا بشر!". أما الصدمة فنتجت بعد ذلك بوقت قليل حين أدرك الجميع أن الحرب مستمرة ولن تنتهي قريبًا، والدليل الجحيم الذي اشتعل في جميع نواصي الخرطوم وأجبر سكانها على الفرار، ولا مفر في مخيلة الخرطوميين سوى مصر؛ أم الدنيا. لكن الصدمة اتسعت ممتزجة مع الدهشة الأولى حين اكتشف الفارون الجدد أن تكاليف السفر تفوق إمكانيات الأغلبية، فعصابات الترحيل رفعت أسعار تذاكر الحافلات السفرية إلى ما يقارب المليار جنيه سوداني في شهري الحرب الأولين -ما يقارب الألف دولار أو يزيد قليلًا- يضاف إلى ذلك صعوبة الخروج من الخرطوم إذ تحول إلى مغامرة ومخاطرة كبرى بعد اشتداد حدة القتال بين الجهتين المتحاربتين. لكن، وبرغم كل هذه المعوقات لم تتوقف محاولات الفرار والرحيل باتجاه مصر لمن يملك المال ومن لا يملكه ويتسلح بالأمل فقط طوقًا للنجاة. ثم حدث ما حدث وأغلقت الطرق، وانمحى أمل النجاة واحتار الخرطوميون الفارون حين أعلنت السلطات المصرية إيقاف التأشيرات المفتوحة - الطارئة، فأظلمت الدنيا أمام الآلاف العالقين وقتها في المعابر المؤدية هبوطًا إلى مصر.. أين المفر؟
الطريق إلى غوندر
هل يرى السودانيون -تقرأ الخرطوميون والنيليون- إثيوبيا بذات المنظار الذي يرون به مصر أم الدنيا وأرض العروبة؟ أم أن الرحلة شرقًا باتجاه أفريقيا السوداء تأخذ موقعًا مختلفًا تمامًا في الذاكرة الجمعية للخرطوميين؟ أكاد أجزم أن المئات - الآلاف من السودانيين الذين عبروا الشرق باتجاه العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، أصيبوا بـ"صدمة حضارية" حين وطأت أقدامهم أرض "غوندر"، المدينة شبه الحدودية التي لا يفصلها عن السودان سوى ساعات سفرًا بالحافلات الصغيرة، وتسبقها مدينة أخرى حدودية أقرب للقرية هي مدينة "المتمة" التي تطابق -للمفارقة- صورة إثيوبيا في الذاكرة الجمعية للخرطوميين وتطابق -للمفارقة أيضًا- في اسمها مسمى مدينة سودانية ذات مركزية رمزية في الشمال النيلي العروبي للخرطوميين، وهي المتمة عاصمة الجعليين، ومدينة المك نمر ملك الجعليين الذي فر باتجاه إثيوبيا هربًا من حملات الدفتردار الانتقامية بعد أن اغتال ابن حاكم مصر محمد علي باشا في زمن التركية القريب البعيد! وتلك مروية من التاريخ لكنها تتقاطع بشكل ما مع صورة الهروب الحالي لسكان الخرطوم.
أي صورة تلك التي تكونها الذاكرة الجمعية للسودانيين عن إثيوبيا والإثيوبيين (الحبش) وتجعل من وطء أرض غوندر (صدمة حضارية)؟ إنها صورة الحبشي - الأفريقي اللاجئ المضطهد الذي دفعته الحروب والجفاف والمجاعات إلى اللجوء إلى السودان في لحظة ما من لحظات التاريخ البشري المتقلب
أي صورة تلك التي تكونها الذاكرة الجمعية للسودانيين عن إثيوبيا والإثيوبيين (الحبش) وتجعل من وطء أرض غوندر (صدمة حضارية)؟ إنها صورة الحبشي - الأفريقي اللاجئ المضطهد الذي دفعته الحروب والجفاف والمجاعات إلى اللجوء إلى السودان في لحظة ما من لحظات التاريخ البشري المتقلب، واضطرته إلى امتهان مهن دنيا بأقل الأثمان والركون إلى المسكنة والحذر داخل مجتمع يهزأ بك فقط لمجرد نطقك حرفًا عربيًا واحدًا خطأ وإن كنت مواطنًا من أهل البلد ذاته لكن لغتك الأم ليست العربية، ناهيك عن كونك "أفريقي" جاء من البعيد! في غوندر الجميلة سوف ينذهل هذا الشخص المتعالي على (الحبشي - الأفريقي)، ستسطع أمامه الحقيقة الصادمة: ما بين هذه الأرض وخرطومنا -تقرأ سوداننا- سنوات ضوئية من التقدم والرقي والحضارة. الشوارع المرصوفة النظيفة، التنويع المعماري البهي، الآثار التاريخية الموزعة هنا وهناك في عمق حضاري، التماثيل والنصب التي تزين الأمكنة وتعرف بكفاح الأحباش، ثم إن هذه مدينتهم الثالثة أو الرابعة فكيف بالمراتب الأولى. من دمر الخرطوم، من الذي أخر السودان وأعاده مئات السنوات الضوئية موغلًا في الظلام. لا تقل الحرب الدائرة الآن، فالأمر أبعد من ذلك بكثير.
سيكتشف الخرطومي حين يصل من بعد ذلك إلى أديس أبابا، أنه لم يكن يمتلك مطارًا دوليًا، ليس لديه عاصمة مدينية في الأصل أو مجالًا استثماريًا أو سياحيًا جاذبًا، وسترهقه الأسئلة أكثر كلما توغل في أفريقيا، أفريقيته التي لم يكن يعرفها وينكرها وعرفته بها الحرب اللعينة.
منابع النيل
صديق صديقي الأممي إن وطأت قدماه أرض أوغندا -مثلًا- سيكتشف أن أفريقيا إلى حد كبير تبادله ذات الجهل، فهو بالرغم من كونه من قلب أفريقيا إلا أنه لم يكن يعرفها ولم يرها إلا حين زار كينيا في شهر عسل عرسه. وأفريقيا هنا في أوغندا لا تنكره أو تتعالى عليه لكنها لا تعرفه وتعرف سودانًا آخر، حدودي مجاور يقطنه (الجنوبيون)، وعلى صديق صديقي أن يُعرِّف نفسه في كل مرة يسأله فيها شخص يوغندي عن بلده: "أنا من السودان الثاني، هناك في أعلى الشمال - سودان الخرطوم".
هل صحيح أن الحرب اشتعلت في السودان؟ قد يسألك شخص أفريقي اهتم قليلًا لأمرك وحين تجيبه بنعم قد يفاجئك بسؤال آخر، وهل حقًا تدور هذه الحرب في شوارع جوبا؟ إذن في كمبالا، نيروبي وبلدان أفريقية أخرى لن تُعرَّف أو تُعرِّف عن سودانيتك إلا عن طريق سودانك الآخر المفصول عنك لأنك كنت ترى أو يرى أنك نقيض؛ فهو غابة وأنت صحراء! لكنك الآن في رحلة التيه هذه تكتشف أيها الخرطومي أنكما الاثنان سواء أبناء الرمال والغابات والسواد الذي يجمل إهابك ويجعلك تسير وسط الجموع الأفريقية دون أن يتنمر عليك أحد أو يذكرك بأنك هاهنا "غريب اليد واللسان".
قبل قرنين أو أكثر ربما رافق سودانيون خرطوميون - نيليون بعثات كشفية جاءت من أقصى الشمال الأوروبي البارد لتكتشف منابع النيل في وسط أفريقيا المطير. وربما صرح قائد البعثة منتشيًا إنهم بصدد اكتشاف أفريقيا
ما بين الرحلتين الهبوط إلى المصب والصعود إلى المنبع، كيف أضاع السوداني هويته الأفريقية؟ كيف نسته أفريقيا وبادلته نكرانًا بنكران؟ قبل قرنين أو أكثر ربما رافق سودانيون خرطوميون - نيليون بعثات كشفية جاءت من أقصى الشمال الأوروبي البارد لتكتشف منابع النيل في وسط أفريقيا المطير. وربما صرح قائد البعثة منتشيًا إنهم بصدد اكتشاف أفريقيا، وربما ردد وراءه أحد السودانيين الخرطوميين منفعلًا "نعم سنكتشف أفريقيا.. لأول مرة". وكأنه جاء من هناك من ذاك المكان الآخر البعيد.. حيث لا أفريقيا!