"شعار الخلل التنموي اقترن بمحاولات استغلاله من النخب وهناك مناطق أكثر فقرًا في عمق الشريط النيلي"
"الميليشيات المدعومة من حكوماتها ليست حكرًا على السودان.. وتعدد الفاعلين العسكريين يحتاج مناهج في النظر والمعالجة أكثر جدوى من ذي قبل"
"التحول من نمط حرب الأدغال في الجنوب إلى حرب الساحل في دارفور.. أنتج الدعم السريع وحَوّله إلى جيش موازي أربك المشهد الأمني في البلاد وما وراء حدودها"
"قضايا السودان ليست معزولة عما يجري في الساحل أو القرن الأفريقي"
"الإصلاح الأمني العسكري بمنهجه الفوقي الخطي أنتج الحرب ونحتاج مقاربة تراعي الاعتبارات المحلية"
"الصراع الذي حدث سببه كيف ومتى يتم دمج الدعم السريع.. وطور الانتقال أسهم في مفاقمة المآزق الأمنية"
"سقوط الجيش يعني تفكك الدولة.. وتوظيف نموذج شرق أفريقيا في قراءة الحالة السودانية ليس دقيقًا أو مناسبًا"
"لا حرب أهلية في السودان.. والحواضن الاجتماعية ستغلّب مصالحها ضمن رؤية أكثر شمولًا"
"التنافس الإقليمي بين الإمارات والسعودية ودخول تركيا وإيران وتموضع الصين كقوة صاعدة في أفريقيا فضلًا عن الصراع الغربي الروسي في منطقة الساحل يعقد المشهد ويضاعف تعميق الصراع ورهاناته"
"موارد السودان وموقعه يجعلانه عرضة للتأثير الخارجي.. وتنامي الأبعاد الجيوسياسية والاستحواذ على الأراضي والمياه يضاعفان أهميته وراهنية الصراع فيه"
"منبر جدة أصابه الشلل.. ولا بديل للتوافق الوطني الداخلي مدفوعًا بضغط الشعب وإسناده"
"على الساسة القدماء أن يتنحوا بعد أن أورثونا المآسي.. والشباب بديل مناسب لقيادة التغيير من أسفل لأعلى"
البروفيسور حسن الحاج علي أحمد كفاءة أكاديمية وازنة في سياق تخصص العلاقات الدولية والعلوم السياسية. شغل البروفيسور عمادة كلية الدراسات الاقتصادية والاجتماعية بجامعة الخرطوم وأمانة مكتبتها، وعمل أستاذًا زائرًا بجامعة هانكوك في كوريا الجنوبية. يحمل الحاج علي شهادات عليا من جامعات أمريكية متقدمة مثل كولومبيا وشمال تكساس التي درّس بها، ويشغل حاليًا موقع رئيس جامعة العلوم الطبية والتكنولوجيا بالخرطوم. شارك البروفيسور حسن الحاج علي في العديد من المؤتمرات، وأنتج رؤى ودراسات مهمة ومتقدمة في درس العلاقات الدولية، وحصل على جائزة التميز العلمي من جامعة الخرطوم في العام 2013م، كما نال المرتبة الأولى في الجائزة العربية المقدمة من المركز العربي للدراسات وأبحاث السياسات عن بحثه القيّم "الأطوار التاريخية للانتقال" في العام 2013م.
"الترا سودان" تواصل معه بغرض إجراء حوار حول راهن حرب الخامس عشر من أبريل في السودان والأبعاد الإقليمية والدولية لها، فاستجاب بجود معرفي معهود عنه، وكانت حصيلة الحوار إثراء للجانب المفاهيمي المتعلق بالدول وتصنيفاتها من حيث قدرتها على الإدارة وتقديم الخدمات العامة وأوضاع الجيوش وظاهرة الميليشيات والكلام عن الاختلال التنموي والبحث عن أفق التسوية المنشودة وأسباب اشتعال الحرب واكتناه طبيعتها وأسئلتها وإمكانية تحولها إلى حرب أهلية.. فإلى مضابط الحوار:
- أشرت في دراسة سابقة إلى مواصفات الدولة الرخوة.. إذ كان السودان في سنيه الأخيرة يتصدر قائمة الدول الفاشلة ويتذيل قوائم مؤشرات جودة الحياة وجودة المؤسسات مستوفيًا شروطها من باب التخلف عن معاييرها.. كيف هو حالنا اليوم بعد واقع التراجع الأخير؟
- كنت أشير حينما كتبت عن "الدولة الرخوة" إلى ما يعتري الدول من ضعف للمؤسسات وضعف الاندماج الاجتماعي لمكوناتها إذا كان ذلك في السودان أو غيره، فهنالك مصطلحات عديدة أطلقت في سياق توصيف ما يشبه الحالة السودانية، حيث وردت مصطلحات مثل "الدولة الفاشلة" و"الدولة المارقة" و"الدولة الهشة"، ولم يمر استخدام هذه المفاهيم بغير انتقاد كثيف سيما مصطلح الدولة المارقة، وذلك لأنه مثقل بالمعاني السياسية باعتبار أن مناط الوصف فيه ليس عدم نجاح مؤسسات الدولة في إدارة الشأن العام وإنما لأنها خالفت ما هو سائد في التيار الرئيس للسياسة العالمية، وبالتالي تكتسب دولة ما هذا الوصف عندما تناوئ القوى المهيمنة في المضمار العالمي كالولايات المتحدة وغيرها.
أمرٌ آخر وهو أن مصطلح الدولة الفاشلة يقع ضمن مفهوم واسع يمكن أن ندرج فيه العديد من الدول وفق مدى متسع من (1-10) أو قل من (1-100)، ومن هنا يمكن إطلاق وتصنيف الدول ووصمها بالفشل وفق تواجدها ضمن هذا المدى المطروح والواسع في آن.
طُرحت قضية الهشاشة بعد الحرب الباردة وحروب الوكالة التي قامت في مناطق مختلفة من العالم، لجهة أن تَدَخُّل قُطبي الرحى في تلك الحقبة قد غطى على واقع الهشاشة الذي أصاب بعض الدول هنا وهناك
حاول بعض الكتاب أن يفكك بنية هذه المفاهيم وأن يحللوا جميع أبعادها وإعادة إنتاجها وفق معايير مختلفة، ومن ذلك ما قام به فرانسيس فوكوياما من طرح محددين لفشل الدولة: قدرتها الإدارية والسياسية والأمنية والتنظيمية، ومدى تقديمها للخدمات العامة. فمثلًا، دول الاتحاد السوفيتي السابق كانت تغطي أوسع مدى في تقديم خدمات التعليم والصحة وخلافه في مقابل دور الولايات المتحدة المحدود في تقديم الخدمات في قطاع محدد.
لقد طُرحت قضية الهشاشة بعد الحرب الباردة وحروب الوكالة التي قامت في مناطق مختلفة من العالم، لجهة أن تَدَخُّل قُطبي الرحى في تلك الحقبة قد غطى على واقع الهشاشة الذي أصاب بعض الدول هنا وهناك. وهنا تحضرني إشارة صامويل هنتنغتون صاحب كتاب "صراع الحضارات" الذي كتب كتابًا مهمًا وليس معروفًا لغير المتخصصين في أواخر الستينيات بعنوان: "النظام السياسي لمجتمعات متغيرة"، تناول من خلاله قضية العالم النامي الذي انتشرت فيه حركات التحرر الوطني والتشكيلات الثورية المرتبطة بالاتحاد السوفيتي. ونوّه هنتنغتون في معرض هذا الموضوع إلى أن المهم درجة الحكم وليس نوع الحكم، قاصدًا أن نمط الحكم سواء كان ديمقراطيًا أو سلطويًا أو ديكتاتوريًا أو شموليًا ليس بالأمر المهم، وإنما المهم والذي ينبغي أن يؤخذ في الاعتبار درجة الحكم، أي قدرة الدولة على السيطرة والضبط، لأن العالم الثالث حينها كان يموج بالاضطرابات وحركات التحرر التي تريد أن تطيح بأنظمة "رجعية" مرتبطة بالولايات المتحدة. لذلك يرى هنتنغتون أن المهم وجود هذه الأنظمة مثل نظام موبوتو في الكونغو الديموقراطية "زائير سابقًا"، أو ماركوس في الفلبين، أو سوموزا في نيكاراغوا. وكأنه أراد من هذه الأنظمة أن تكفكف فعل الحركات الوطنية التحررية وتبطل مفاعيلها مما يؤكد أن ضعف مؤسسات الدولة يسبب قلقًا حقيقيًا للمُنظِّرين الأمريكان لأن الهشاشة في إحدى مراتبها توفر ملاذات آمنة للإرهاب، مما جعلها تأخذ بعدًا أمنيًا كونها تفوج مواكب المهاجرين إلى الغرب عبر البحار وتنتشر منها الجماعات المتطرفة، وهي قضايا أضحت ذات حضور وتأثير في عمق الدول الغربية بوصفها هواجس تثير القلق والارتياب بعد أن كانت بعيدة عن جغرافيا الغرب في الحرب الباردة.
بخصوص المصطلح، أعتقد أن الأفضل هو استخدام "الدولة الرخوة" أو "الهشة" كونهما لا يشيران إلى انهيار كامل لمؤسسات الدولة المختلفة وإنما إلى ما يصيبها من انهيار جزئي أو قابليتها للانهيار في أي لحظة. وبالتطبيق على الحالة السودانية يطول الحديث حول مؤشري "المدى والقدرة" وفق رؤية فوكوياما. إذ نلاحظ تأرجح مدى الدولة السودانية منذ ما بعد الاستقلال، التي ابتدأت بتقديم الخدمات العامة في إطار واسع يشمل التعليم والصحة والإعلام، وتغيرت الأوضاع في عهد مايو 1969م نحو زيادة مدى الدولة بسبب سياسة التأميم لكنها لم تلبث أن تراجعت وانحسرت بسبب انعطافتها نحو سياسات مغايرة. وبمجيء الإنقاذ في العام 1989م زاد انحسار مدى تقديم الخدمات بفعل خصخصة القطاع العام، وهذا متصل بالتطورات العالمية ونشوء ما سمي بـ"إجماع واشنطن" الذي بلوّر ما جرى بخصوص الخصخصة واتجاه كثير من الدول النامية نحو تطبيقها وانحسار أدوار الدولة في الاقتصاد. ولا يخفى أن هذا المسار قد تفاقم في الحالة السودانية في السنوات الأخيرة، ليس فقط على نطاق الجانب الاقتصادي وإنما على نطاق الجوانب العسكرية والأمنية، وذلك بظهور حركات مسلحة وميليشيات إثنية وتنظيمات عسكرية مثل الدعم السريع مؤخرًا، حيث أدى كل ذلك إلى وجود أطراف تنافس الدولة في بعض المهام التي تحتكرها وتقوم بجل وظائفها.
نحن الآن -بسبب حرب الخامس عشر من أبريل- أمام حالة كشفت هذه الهشاشة وأوضحت بصورة جلية عمق التباين بين مناطق السودان المختلفة وبين المركز، ومدى توفر الخدمات المختلفة وما أثاره من نقاش مكثف في هذا الصدد، ويمكن أن نناقش هذه الجزئية في إطار قضية "دولة 56"، ويمكننا القول أن قضية الهشاشة أضحت سمة لازمة للمجتمعات الإثنية والسياسية والاجتماعية المتباينة كما في الحالة السودانية، مما يبرز سؤالًا في أفق المعالجة والتحليل؛ وهو إلى متى تستمر هذه الهشاشة؟ وهل يمكن أن تكون الحرب المشتعلة علامة تحول في بناء الدولة السودانية؟ إذ يشير بعض المنظرين ومنهم عالم اجتماع أمريكي اسمه تشارلز تايلر، إلى أن الدول تكونت بفعل الحرب كما في التاريخ الأوروبي، أو بعبارة أخرى أن أعمال الحرب تفرز بناء الدول. ويمكننا أن نقيس مع الفارق إذا انتهت هذه الحرب يمكننا النظر إلى الدولة السودانية بصورة مختلفة ومقاربة البناء الجديد في آفاقها، وهناك تجارب في أفريقيا كما في حالة رواندا وبدرجة أقل في سيراليون. ولكل ذلك علينا أن نعقد الأمل في إعادة النظر ما بعد الحرب ودخول فاعلين جدد في السياسة السودانية وما يتطلبه النظر من أسفل إلى أعلى لأن ما هو سائد في السياسة السودانية كان هيمنة من أعلى إلى أسفل من خلال نخب موجودة تقدم مصالحها الشخصية واعتباراتها التنظيمية، وآن الأوان أن يتغير هذا الأمر ويكون البناء من أسفل إلى أعلى؛ من المواطن العادي في القرى والأحياء، ليكون لديه الدور الأكبر في تأسيس الدولة على نحو مختلف من الحال السابق.
- لإدوارد سعيد مقولة مشهورة بأن "تاريخ العالم الثالث هو تاريخ دول إستراتيجية تم تفكيكها"، وكثيرًا ما تقرأ الأوضاع في السودان على ضوء هذا المفهوم: أن ثمة قوى خارجية متربصة به. هل تحمل هذه القراءة أسانيد عيانية تفحص على أساسها؟ وأين تندرج العوامل الذاتية والتناقضات الداخلية؟
- عبارة إدوارد سعيد صحيحة في مجملها، وهناك شواهد كثيرة تدلل عليها، أبرز حالة يمكن أن نشير إليها في هذا الصدد هي إفريقيا جنوب الصحراء بعد مجيء الاستعمار، والذي غير أو بالأحرى صنع حالة مغايرة تمامًا للقارة الأفريقية، وهي التي احتضنت في تاريخها ممالك معروفة مثل سنغي وبرنو ومالي وغيرها، امتدت في مساحات واسعة لا تعرف الحدود السياسية المتصلة بمجيء الاستعمار، وما أدى من تقسيم للقارة السمراء مع ما عرف بـ"التكالب على أفريقيا" في أعقاب مؤتمر برلين أواخر القرن التاسع عشر. وإذا أخذنا حالة أفريقيا جنوب الصحراء، نستطيع أن ندرك حجم ما أصابها من تفكيك وفق مقولة إدوارد المشار إليها، وبالنظر إلى مفاعيل السياسة الاستعمارية وما أجرته من تجميع تكوينات اجتماعية، فالكاميرن مثلًا ضم مجموعات ناطقة بالإنجليزية ومجموعات ناطقة بالفرنسية مما أدى إلى نشوء جماعات تطالب بالانفصال وتتوسل حمل السلاح إلى ذلك، والسبب المباشر هو التقسيمات القائمة على الاختلافات اللغوية والأبعاد الثقافية. وكذلك حين أتى الأسبان إلى أمريكا اللاتينية، حيث قضوا على ممالك وأقاموا على أنقاضها الدولة القومية، فالاستعمار هو الذي أنشأ مجمل الأوضاع وما اتصل بها من مشكلات، لذلك أرى مقولة إدوارد كاشفة ومعبّرة كما تشير الشواهد التي لا تقع على حصر.
- كثر الحديث عن "دولة 56" وسيطرة "الشريط النيلي" ضمن خطاب مخدوم في إطار معنى الحرب وحرب المعنى، بينما رأى فريق آخر أن المعارك المشتعلة نتاج حتمي لفشل دولة ما بعد الاستقلال؛ كيف نفسر ما حدث؟
- الشعار المتعلق بدولة 56 والمعاد إنتاجه في سياق الحرب الدائرة حاليًا، سبق أن تم التلويح به في حرب الحركة الشعبية منذ 1983م، وهي قضية ذات فحوى حقيقي لجهة أن دولة ما بعد الاستقلال بها تباينات في النمو الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، كما برزت قضية التمثيل التي طرحت من الحركة الشعبية في خطابها وعبر مواقفها التفاوضية. لكن وجه الانتقاد عندي هو عرض الموضوع مثقلًا بالحمولات الإثنية والجهوية، وليس من خلال بُعد الافتقار للتنمية في مناطق مختلفة من السودان. فلو قارنّا مناطق في أعالي نهر عطبرة وهي تقع في مناطق مصنفة بأنها ضمن "الشريط النيلي"، نلحظ ما تعانيه هذه المناطق من فقر مدقع وتخلف واسع على ذات النحو الموجود في أماكن أخرى من جغرافيا السودان.
هذا الشعار يظهر حقيقة التباين لكنه يعرض القضية مشوشة بسبب التسييس البالغ لخدمة نخب محددة، ويرسخ لبقائها مع تجاهل تبعات التصدي لآثار ودلالات هذا الشعار. لقد سافرت إلى جنوب السودان بعد اتفاقية نيفاشا، ورأيت بنفسي في منطقة "فلج" كيف أن شركات البترول أسست مرافق عامة في المنطقة، غير أن حكومة ولاية أعالي النيل لم تستطع تشغيل هذه المرافق رغم أنها تتلقى (50)% من عائدات البترول. والسؤال الذي يبرز أين الشعار الذي كان يرفع حول مفارقات التنمية؟ مما يؤكد أنه محض شعار تعبوي وتحشيدي دون أن ينعكس في الواقع بعد أن تسنمت هذه النخب القيادة، وأصبح لديها موارد تمكنها من معالجة الاختلالات، بيد أن ذلك لم يحدث. فشعار الخلل التنموي اقترن دائمًا بمحاولات استغلاله والعجز عن تحقيق أي فعل جدي في تغيير الواقع عند بعض النخب.
- كتبت في "خصخصة الأمن" حول الدور المتنامي للشركات العسكرية والأمنية الخاصة، ثم تعاظم هذا الدور وخرج في كثير من الأحيان عن مجرد إدارة حروب بالوكالة إلى تهديد مفهوم الدولة نفسه؛ ما هو الفارق بين خصخصة الأمن وممارسته في سياق العالم الثالث عبر الميليشيات والمرتزقة والشركات الأمنية الخاصة في الدول المتقدمة؟ وماذا يتبقى من تعريف الدولة إذا غاب عن جيشها احتكار العنف؟
- قضية الحرب الداخلية في السودان -كما هو معلوم- ابتدأت قبيل الاستقلال، وكان الصراع قائمًا بين الجيش وحركة "أنانيا ون"، وحدث تطور لاحق حين اندلع القتال مرة أخرى في 1983م بظهور الميليشيات، تغير الحال بمجيء الإنقاذ في تعبئة الشعب لمواجهة الحركة الشعبية انطلاقًا من رؤية فكرية ونظرة في تكوين الجيش تتسق مع الخبرة الإسلامية بتعبئة عامة الناس واستدعائهم للقتال عند الحاجة، ومع تقدم التقنية وطرائق الحرب والنظم الدفاعية ظهرت فكرة ضرورة بروز جيش محدود يمتلك قدرات فنية لازمة على أن يشكل الشعب احتياطيًا يستدعى وقت اللزوم كما هو في "إسرائيل"، والتي تمتلك جيشًا حديثًا وتمتلك عددًا مقدرًا من الاحتياطي في شرائح المجتمع وفئاته على اختلافهم، وتستنفر عند الحاجة كما حدث في كل الحروب وآخرها "طوفان الأقصى". هذه الفكرة تم تنفيذها مع الإنقاذ، إذ تعسكر عدد ليس بالقليل من الشباب على مختلف مهنهم وفئاتهم ودُفع بهم في معارك طويلة وشرسة بأدغال الجنوب. ومع اندلاع أزمة دارفور في العام 2003م، برز متغير جديد بظهور الحركات المسلحة وما أتت به من طريقة حرب الساحل الأفريقي، وتم على إثر ذلك توظيف الميليشيات ثم تطورها في حرس الحدود ثم تطورها في الدعم السريع وما أثارته من قضية وجود جيشين في دولة واحدة. كل ذلك يجعلنا نقلّب التجارب العالمية لنجد أن ظاهرة الميليشيات المدعومة من الحكومات ليست حكرًا على السودان وموجودة في مناطق عديدة من العالم، بل إن الميليشيا نفسها بهذا المسمى كانت موجودة في أمريكا، ويعتقد أنه بسببها تم الانتصار على الحكم البريطاني الذي كان يحكم أمريكا قبل استقلالها، وهناك ميليشيات عامة موجودة تم تقنينها في الحرس الوطني ،مع وجود ميليشيات خاصة ممنوعة لكنها موجودة ومنها "ميليشيا ميتشغان" وأخرى موجودة في تكساس تحارب المهاجرين غير الشرعيين. بل إن تقنين الحرس الوطني نفسه تطور عن الميليشيا لاستخدامه في حالة الطوارئ.
فكرة الميليشيات موجودة أيضًا، في دول أخرى لكن ليس بنفس الطريقة الأمريكية، إذ توظفها الأنظمة لتحمي بها وجودها أو تكافح بها قوات متمردة عليها أو حركات مسلحة لا تستطيع أن تكافحها بالجيوش العادية، مما أحالها إلى ظاهرة تعرض لها الدرس الأكاديمي بكثير من التحليلات والدراسات والمتخصصين وقواعد بيانات بالميليشيات المدعومة من الحكومات.
في وضع السودان أصبح الدعم السريع جيشًا موازيًا للجيش السوداني، وبات موضع قلق ليس للسودان فحسب وإنما لدول الجوار ولمناطق جغرافية أخرى شكل فيها حضورًا وتأثيرًا، وبالتحديد في اليمن وليبيا وتحوله الى إمبراطورية ضخمة لها اعمال تجارية ضخمة، فلم يعد بناءً على ذلك ميليشيا، ولكنه غدا جيشًا موازيًا كما أسلفت، بعتاد وسند خارجي وبحلفاء داخليين وخارجيين، وهذا هو الذي أدى إلى قيام "حرب 15 أبريل"، بسبب هذا التمدد. بذا أصبح الهم ليس قيام شركات أمنية وعسكرية خاصة كونها موجودة وقامت بدور في سيراليون ودول أخرى، كما تقوم بأدوار نيابة عن الحكومات مثل "بلاك ووتر" الامريكية أو "فاغنر" الروسية.
هناك شركات خاصة أمنية أوروبية وصينية تعمل في مناطق مختلفة من العالم، ويختلف التوظيف الأوروبي للميليشيات والقراصنة أو جنود للبيع، فلو نظرنا مثلًا إلى الفيلق الفرنسي الغربي نجده مكونًا من عدد من الأجانب كما يتضح من اسمه، بيد أنهم يعتبرونه جزءًا من الجيش، غير أنه فيلقٌ قائمٌ بذاته. يوجد في بريطانيا أيضًا "الجوركا"، وهم عناصر تنحدر من النيبال وكانوا جزءًا من الجيش البريطاني وشاركوا منذ الحرب العالمية الأولى في معاركه عبر العالم. ومن المقارنات الموحية أن الكورخا حاربت في العراق في الحرب العالمية الأولى ثم شاركت في حرب العراق في عام 2003م بعد مائة عام، في أطول عملية توظيف. والغريب أن بعض المتقاعدين منهم أنشأوا شركة أمنية خاصة اعتمادًا على خبرتهم وسمعتهم كمقاتلين أشداء يقدمون خدماتهم في أماكن مختلفة من العالم.
الآن توسع هذا الجانب في دبلوماسية حفظ السلام. أو للمفارقة، الدبلوماسية العسكرية. مثلًا بلد مثل رواندا تقدم خدماتها في مجال حفظ السلام أو محاربة جماعات مسلحة أو جماعات مناوئة لحكوماتها أو صنفت كجماعات متطرفة. رواندا لديها وجود عسكري في موزمبيق تووحارب جماعات إرهابية مرتبطة بتنظيم الشباب الصومالي، ولأن هذه منطقة بها استكشافات بترول وغاز. وهي موجودة أيضًا في أفريقيا الوسطى ومرتبطة بهذا العمل عبر شبكة مصالح اقتصادية تريد أن تحققها من خلال عملها العسكري. نخلص من خلال هذا الاستطراد أنه بات لدينا تنظيمات تحمل السلاح من جيوش رسمية أو شركات أمنية وعسكرية أو ميليشيات أو تنظيمات عسكرية وشبه عسكرية منتشرة في مناطق مختلفة من العالم، وهذا يشير إلى تعدد هؤلاء الفاعلين العسكريين وأيضًا يشير إلى أن الطريقة القديمة لم تعد تجدي في التعامل مع هذا الطيف العسكري الواسع. ويعتقد بعض الدارسين أن الطريقة الغربية في إصلاح القطاع العسكري لم تعد مجدية لاتسامها بـ"النموذج الخطي" الذي يستبطن وجود وصفة مثل الوصفات الطبية إذا قامت بها الدولة المعنية سيتحقق لها الإصلاح الأمني والعسكري، وهذا قائم على بُعد من أعلى إلى أسفل، كأن تستدعي بعض النخب ليناقشوا في ورشة الإصلاح الأمني والعسكري التي عقدت في السودان فأنتجت في نهاية المطاف الحرب، لأن المدخل الفوقي لم يسترعي اعتبارات المجتمعات المحلية.
- تحدث قيادي في قوى الحرية والتغيير حول أن سقوط الجيش لا يسقط الدول، مستندًا إلى ما بات يصطلح عليه بـ"نموذج شرق أفريقيا" كما في الحالة الإثيوبية مثلًا؛ كيف تقيم مقبولية وجود جيشين في دولة واحدة عند كثير من النخب السياسية؟
- أرى في سياق ما أثير حول "نموذج شرق أفريقيا" وفرضية أن سقوط الجيش ليس بالضرورة أن يتبعه تفكك الدول - أرى أن ذلك أمر غير صحيح، فالجيش في الدول الضعيفة متى انهار سيؤدي إلى تفكك الدول لأن التهديد الأمني في غالبه داخلي وليس خارجي كسائر الدول الكبرى. والحديث عن تجربة إثيوبيا غير دقيق، فالجيش الإثيوبي حدثت له انتكاسات مع حرب التغراي لكنه بسند خارجي استطاع أن يهزم التغراي، ولهذا هو الآن موجود، ولو تفكك لانهارت إثيوبيا وتفككت إلى دول عديدة. وأوضح مثال في ذلك ما حدث في الصومال، فعندما انهار الجيش الصومالي تحولت الصومال إلى دولة يحكمها أمراء حرب كل أمير لديه منطقة نفوذ يحكم فيها بما شاء، واستقلت منها أجزاء مثل أرض الصومال وإعلان بوتلاند نفسها إقليمًا ذو سيادة، علاوة على وجود أراضٍ تحت سيطرة تنظيم الشباب، إلى أن تجمعت الدولة من جديد تحت ترتيبات خارجية لبناء جيش صومالي موحد يمثل صمام أمان وحدة الصومال.
أمر آخر متصل بسقوط الجيوش، هو استباحة البلاد بأشكال من التدخلات الخارجية عبر الشركات الأمنية كما حدث في ليبيريا وسيراليون. كما أن مجرد ضعف الجيش يغري دخول دول أخرى مثل ما حدث في الكونغو الديموقراطية وفي المنطقة الشرقية منها لأن بها موارد مهمة، حيث دخلت سبعة جيوش عملت على نهبها، فضلًا عن وجود (80) شركة عالمية تستغل هذه الموارد وفق تقرير مجموعة خبراء تابعة للأمم المتحدة عن الأوضاع في الكونغو الديمقراطية، خاصة في المنطقة الشرقية. وهذا يشير إلى أهمية وجود جيش وطني فعال للتأكيد على وحدة البلاد مع انتشار السلاح وتعدد الفاعلين العسكريين، وبطبيعة الحال لا تقوى الشرطة على مجابهة هذه المخاطر.
وما حدث مؤخرا في حرب 15 أبريل أوضح ضرورة وجود جيش قوين وإلا أضحت البلاد عرضة لما حدث من انتهاكات وانتهابات واسعة للأموال والأعراض والأنفس. وجود جيش قوي شرط مهم، وكل الصراع الذي حدث كان سببه كيفية ومتى دمج الدعم السريع، لأنه لا يعقل وجود جيشين في دولة واحدة. لقد أدركت القوات المسلحة أن الدعم السريع يعمل بتكتيك لإطالة المدة وتقوية نفسه ليجعل من الصعوبة دمجه في القوات المسلحة، لكن بالضرورة وجود جيش واحد تدمج فيه الحركات المسلحة.
- هناك مخاوف كثيرة من تحول المعارك إلى حرب أهلية في السودان، أهي محض فزاعة للخضوع إلى شروط التسوية بأي ثمن، أم أن ثمة شواهد على إمكانية تحول الحرب إلى اقتتال أهلي واسع لا يمكن السيطرة عليه؟
- في الغالب تنشأ الحروب الأهلية في ظل وجود مجموعات سياسية واجتماعية عديدة تتقاتل من أجل الموارد السياسية والاقتصادية في البلاد. لكن ما نراه اليوم هو قتال بين القوات المسلحة السودانية وقوات أخرى أرادت أن تسيطر على السلطة وتقوم بتغييرات سياسية وتغييرات عسكرية في البلد، وتنفيذ مشروع مسنود داخليًا وخارجيًا، وهنا تنتفي بيئة الصراع المفضي إلى الحرب الأهلية، لأنه لا توجد مجموعات مختلفة عديدة تتقاتل كما أسلفت على السلطة والثروة في السودان، بل هناك قوة عسكرية رئيسة هي الجيش منتشرة على امتداد البلاد كلها، بينما القوة التي تقاتلها كانت موجودة بشكل رئيس في دارفور وتحولت وتمددت في طور الانتقال كما يعلم الجميع. وهذه القوات التي تريد السيطرة على الأوضاع تراجعت في الفترة الأخيرة بشكل كبير، وهي في انحسار مهما طال الأمد، وليس لديها القدرة على تحقيق تقدم حاسم سيما بعد الضربات التي وجهت لها، كما أن ليس لديها القدرة على الصمود. لقد تابعنا جميعًا تحولها مؤخرًا إلى جماعات متفرقة تهجم على منطقة وتنهبها كما حدث في العيلفون، وتروع من تبقى من المواطنين، وهكذا. وأشار عدد من المراقبين إلى تحولها لتهديد أمني وليس تهديدًا عسكريًا قد يطول القضاء عليه بسبب الحركية الكبيرة الملازمة لهذه القوات. على نحو عام لا أرى حاضنة اجتماعية لها إلا مناطق محدودة في دارفور، ومن شأنها إذا استشعرت هزيمتها على نحو ماحق أن تحول ولاءها فورًا كما تدلل على ذلك سوابق وشواهد التاريخ: الجميع يلتحق بالجيش الوطني المنتصر، إذ لن تُضحي الحواضن الاجتماعية المنسوبة إلى هذه القوات بمصالحها المعتبرة مع انعدام الانسجام الداخلي واحتدام التنافس على الزعامة والنفوذ.
- أشار تقرير لـ"سي إن إن" أن القوات الخاصة الأوكرانية قدمت خدمات عسكرية نوعية للجيش لضرب فاغنر وحليفه في السودان، كيف تقيم هذا التطور؟
- إذا صح تقرير الـ"سي إن إن" بمشاركة قوات أوكرانية خاصة في القتال الدائر في السودان، فهذا يشير إلى أن أوكرانيا وبعض حلفائها من الغربيين يرون في تحالف الدعم السريع وتنسيقه وتعاونه مع شركة فاغنر امتدادًا للنفوذ الروسي في السودان والمنطقة بأسرها، مما يجعل القوات تقوم بتسديد ضربة لحلفاء فاغنر، ولتوضيح أنها تشكل خطرًا ليس على نطاق أوكرانيا فقط وإنما تهديد منطقة الساحل الأفريقي بأشمله. وهذا قاد إلى تحركات أمريكية الآن كثيفة في المنطقة بعد الانقلاب الذي حدث في النيجر والتطورات الهائلة التي حدثت لفرنسا وخروجها من منطقة نفوذها القديم، مما أوجس منه متخذو القرار في أمريكا نظرًا لما يمكن ان تشكله المنطقة من تهديد أمني، وهي ترى ضرورة عدم التعجل في اتخاذ أي قرار متسرع لجهة أن منطقة الساحل مترابطة جدًا يؤثر بعضها على بعض، ولديها اعتماد عسكري وأمني متبادل. وهذا يعكس أن قضايا السودان ليست معزولة عما يجري في محيطه سواء على الساحل أو القرن الأفريقي، بيد أن لمنطقة الساحل أهمية خاصة لما تمر به من تحولات في أوضاعها، علاوة على ما تعنيه مثلًا لدولة مثل الولايات المتحدة الأمريكية، والتي تُوْدِع فيها أكبر محطة للطائرات بدون طيار خارج أراضيها. كل ذلك يشير إلى تعقد البيئة الأمنية والعسكرية المحيطة بالسودان وتداخلها إقليميًا ودوليًا كما رأينا.
- كثر الحديث عن الأبعاد الدولية والإقليمية فيما جرى من معارك منذ الخامس عشر من أبريل، كيف تقيم التدخلات الخارجية في الحرب المشتعلة وعلى ماذا تراهن؟
- هذا السؤال مرتبط بالسؤال السابق ويتمحور حول موقع السودان على القرن الأفريقي وإطلاله البحر الأحمر وامتداداته الجنوبية في منطقة البحيرات ووقوعه في ظل منطقة الساحل الأفريقي، كل تلك الحيثيات تجعل قضاياه تتجاوز حيزه الجغرافي وحدوده السياسية سيما أن السودان أصبح جزءًا من التحالف العربي الذي شن الحرب في اليمن وشاركت فيها قوات منه سواء من الجيش أو الدعم السريع. وهناك ارتباطات موجودة سلفًا حينما كان الدعم السريع متواجدًا في دارفور لجهة قدرته على الحد من أنشطة الحركات المسلحة، مما دفعها للانتقال إلى ليبيا للقتال مع أطراف النزاع هناك، وهذا الأمر مفصلًا موجود ضمن تقرير لجنة الخبراء المتعلقة بالسودان المقدمة للأمم المتحدة لأكثر من عام. وأيضًا هناك بعد مهم في الصراع متعلق بوجود المسلحين الذين انضموا للقتال في صف الدعم السريع قادمين من منطقة الساحل، كما أن هناك بعدًا متصلًا بوجود السودان مطلًا على ساحل البحر الأحمر، ليس في إطاره المحدود، وإنما ضمن نطاق جيو سياسي ممتد من الخليج العربي شمالًا حتى تركيا إلى منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط وحتى القرن الأفريقي وتتسم قضاياه بالترابط، ومن ذلك التنافس على الموانئ وما يعكسه من مؤشرات على تنامي أهمية المنطقة تبعًا للمنطق الجيوسياسي المشار إليه. فرؤية 2030 السعودية مثلًا تتحدث على جعل منطقة البحر الأحمر مركزًا تجاريًا ذو ثقل واعتبار يطل على وقريب من ثلاث قارات، مما يفسر حدة التنافس بين السعودية والإمارات، ودخول تركيا على خط التنافس، وليس هي فحسب، وإنما هناك مؤشرات لدخول إيران كذلك بأدواتها ومشروعاتها، مما عرّض السودان وموارده المائية والزراعية للاستهداف فيما بات يعرف بالاستحواذ على الأراضي والمياه في العالم كتوجه عام متعلق بالأمن الغذائي، سيما في أعقاب الحرب الأوكرانية الروسية وما أبرزته من أهمية قصوى لمسألة الغذاء. كل ذلك يجعل موارد السودان وموقعه عُرضة للتأثير الخارجي والعمل على تشكيل مستقبله السياسي وهو ليس بالأمر الجديد، فالاهتمام نفسه يأخذ أشكالًا متعددة حسب التغيرات التي تتم على العالم، إذ نلاحظ نمو الصين وهو يقض مضاجع أطراف عديدة في قلب معادلة الهيمنة العالمية، خاصة دورها في أفريقيا اقتصاديا وعسكريًا حيث توجد أكبر قاعدة عسكرية خارج البر الصيني في جيبوتي، ولديها أكبر منطقة سوق حرة في جيبوتي كذلك. السودان جزء من عالم معقد ومترابط على مستوى القضايا العسكرية والأمنية والاقتصادية والتجارية، لذا فالأثر الخارجي يعد عاملًا مهمًا ومن المتوقع أن يتصاعد تأثيره في ظل تفاقم التشظي الداخلي في السودان.
- تعددت المنابر التفاوضية بين جدة والاتحاد الأفريقي ودول الجوار، ما هو الخيار التفاوضي المناسب في رأيكم ولماذا؟
- ثمة اشتراطات في رأيي لنجاح المنابر الخارجية؛ أهمها قدرة الفاعلين على حمل الأطراف المتنازعة على الالتزام بما يخرج به التفاوض، ومدى التزام الأطراف نفسها داخليًا بتنفيذ ما يلي الاتفاق عليه. الملاحظ أن هذا الشرط الأساسي افتقر إليه منبر جدة، وبالتالي أصابه الشلل لأن مخرجاته لم تنفذ كما وعدت الأطراف المختلفة، وهذا يشير أيضًا إلى أنه من الصعوبة الآن أن يوجد منبر بديل، وذلك لأن السعودية قوة إقليمية معتبرة والولايات المتحدة قوة عالمية عظمى. لذا حتى الأطراف التي تريد أن تسهل مخرجًا للقتال الدائر في السودان تعلن أنها لا تنتوي منافسة المنابر الحالية، والمقصود منبر جدة حتى لا يبدو فيه تنافس بين أطراف إقليمية أو دولية في هذا الصدد، وعليه يصبح التعويل دائمًا على الحوار الوطني. وليصبح الشعار قابلًا للتطبيق وليس شعارًا لا يمكن تنفيذه نسبة لتباعد الشقة بين الفرقاء السودانيين، يجب أن يدرك القادة والنخب وبضغط من الشعب أن لا بديل إلا بالمنبر الوطني الداخلي الذي يتوافق عليه الجميع، وبذا يمكن أن نصل إلى نتيجة ويمكن التعويل على الضغط الشعبي والتركيز على التحرك القاعدي وما يمكن أن يحمل الأطراف المختلفة على القبول بمنبر داخلي شامل للحوار، لأن منبر جدة لم ينجح في الوصول إلى إنهاء الحرب.
- هل في مقدور السودان أن يخرج من أزمته تلك بتأسيس جديد؟ وبناء عقد اجتماعي على أسس وشروط جديدة؟ أم أن البلاد سارت في طريق اللاعودة؟
- هذا الأفق ممكن ومطلوب وإن طال أمد الحرب؛ لدينا شواهد تاريخية سيراليون مثلًا استمرت فيها الحرب الأهلية عشر سنوات وفي النهاية جلست الأطراف ووصلت إلى توافق وتمكنت من تحقيق استقرار معقول. رواندا كأمثولة شهيرة في هذا الصدد توصلت إلى السلام بعد مجازر دموية وأضحت دولة يشار إليها بالاهتمام والنظر لما حققته من تنمية واستقرار.
الأمل معقود في الوصول إلى حل ومن المأمول أن تشكل الحرب صدمة تعيد وعي النخب السياسية بقضاياها الجوهرية
الأمل معقود في الوصول إلى حل ومن المأمول أن تشكل الحرب صدمة تعيد وعي النخب السياسية بقضاياها الجوهرية، والتعويل على القاعدة الشعبية في الوصول إلى الأفق المنشود، خاصة الشباب الذين قادوا ويقودون التغيير ويشكلون الكتلة البشرية الأكبر في السودان، وهم أصحاب المصلحة في المستقبل إذ يقدرون بجانب الأطفال بما نسبته (65)% من السكان، وإذا نظمت هذه الكتلة نفسها برؤية مختلفة وتجاوزت القيادات التاريخية الموجودة التي أقعدتها عن إحداث التغييرات المطلوبة بارتكانها لقضاياها وارتباطاتها القديمة. إن على قدماء الساسة أن يتنحوا جانبًا ويتركوا البلاد للشباب بعد أن استمروا معنا زمنًا طويلًا وأورثونا المآسي. وللشباب قدرات قيادية وطموح مشروع ورؤى متقدمة تسندها حصيلة معرفية جيدة ومتنوعة، ومن حقهم أن يتقدموا لقيادة التغيير مع ضرورة مراعاة قيم التعايش في ظل وطن واحد، وأن يتنزل الشعار من تجريدات المخيلة إلى تجريبات الواقع في مضمار حراك قاعدي في حمل توجهات التغيير. إن الأمل موجود وتعززه الشواهد التاريخية والخبرات وتجارب الدول الأخرى كما رأينا، ومما شاهدناه من مآسي في الحرب الحالية وكيف يمكن أن تدفع بالشباب أن يقدموا نموذجًا مختلفًا للجيل السابق.