30-يوليو-2024
الكلاكلة الخرطوم

بندقية روسية الصنع المعروفة بـ"كلاشنكوف" المُنتشرة بين الجماعات المسلحة في السودان، يضعها فتى لا يتجاوز عمره (21) عامًا ينخرط في صفوف الدعم السريع على الكتف، وهو جالس قُرب بائعة شاي في سوق الكلاكلة اللفة جنوب الخرطوم.

مقاتل الدعم السريع الذي يتجول في سوق الكلاكلة اللفة، وهو يتفحص هيئة العابرين بتشكيك لا ينقطع، يجعلك تميز بوضوح كيف يعيش الناس حياتهم

هذا المشهد كفيل بمنحك معلومة أولية عن الطرف العسكري المسيطر على المنطقة، ويجعلك تقرر عما إذا كنت قادرًا على التأقلم مع حياة الحرب أم لا. وإذا غامرت بذلك، يتعين عليك أن تعتمد على القليل من الطعام في يومك والاستغناء عن الاحتياجات التي كنت تعتقد أنها ضرورية قبل اندلاع الحرب، يقول متولي الذي رفض مغادرة المنطقة لـ"الترا سودان" ويسرد جزءًا من حياة الناس في المنطقة. مع ذلك، لا يكشف سوى القليل لأن سرديات حرب السودان لا يمكن حصرها بسهولة.

التطبيع مع الحرب

تخضع مناطق واسعة جنوب الخرطوم بما فيها الكلاكلة تحت سيطرة الدعم السريع. ورغم محاولة المدنيين التطبيع مع حياة الحرب، لكن التعايش مع هذه القوات في بعض الأوقات يكون مستحيلًا بعض الشيء، كونها معروفة بإطلاق النار على المدنيين بلا هوادة وفق شهادات المواطنين. وعايش المدنيون حوادث قتل عنيفة، بعضها لعائلات تعرضت إلى مجزرة.

وفي حادثة تعد الأعنف من نوعها مؤخرًا، قتلت قوة من الدعم السريع الأسبوع الماضي عائلة في الكلاكلة القبة قرب سوق اللفة ضمن حملات انتقامية. من بين الضحايا امرأة مسنة وشاب ورجل، وهي عائلة رجل دين اشتهر بالخلاوي وتدريس القرآن.

ولا ينسى المواطنون في المقاطعة الواقعة جنوبي العاصمة حادثة الاقتحام الشهيرة نهاية العام الماضي في الكلاكلة القطعية عندما لاحقت الدعم السريع بعض السكان بحجة أنهم ضمن أعضاء المقاومة الشعبية وحصلوا على السلاح. الحادثة أودت بحياة (30) شخصًا على الأقل، كما توفي بعض المدنيين أثناء رحلة الهروب عبر النيل الأبيض على متن قوارب بدائية.

تقليص الوجبات

هنا في هذا السوق، تتوفر السلع رغم التباين في الأسعار والوفرة. يُباع كيلو الموز بثلاثة آلاف جنيه، والقطعة الواحدة من المانجو بـ (2500) جنيه. لا يأبه المواطنون بشراء الفواكه طالما أن الأولويات لشراء البقوليات والسكر وزيت الطعام.

أما الدواء، في العادة لا تتوفر الأدوية المنقذة للحياة أو للأمراض المزمنة، لكن يمكن الحصول على علاج الملاريا والإنفلونزا والمسكنات. ويساعد توفر الكهرباء على تشغيل بعض الصيدليات في سوق الكلاكلة اللفة.

اشتهرت محطة الحافلات في سوق الكلاكلة اللفة كونها ملتقى لعشرات الآلاف يوميًا في رحلة الذهاب نحو وسط العاصمة الخرطوم، مقر الجامعات والمرافق الحكومية والشركات، أو العبور إلى الضفة الأخرى من مدن العاصمة المثلثة.

تتكون الكلاكلة من "الكلاكلة اللفة" و"الكلاكلة شرق" و"الكلاكلة الوحدة"، ويقطنها نحو مليوني شخص. وتعد من المدن العاصمة التي استقبلت مئات الآلاف ممن فضلوا هجرة الولايات في السنوات الماضية بحثًا عن التعليم والصحة والخدمات الأساسية.

من أسباب استهداف الدعم السريع للمنطقة وقوع مقار عسكرية استراتيجية في المحلية، أبرزها مصنع اليرموك للأسلحة والذخائر ومقر الاحتياطي المركزي للشرطة. كما يقع أكبر معسكر "طيبة الحسناب" للدعم السريع قرب هذه المنطقة أقصى جنوب محلية جبل أولياء، وقاعدة النجومي الجوية التابعة للقوات المسلحة.

ورغم انحسار المعارك الحربية المباشرة خلال الشهور الأخيرة، خاصة منذ مطلع هذا العام، في مناطق الكلاكلة، لكن الحياة غير طبيعية وفق مُتولي الذي قرر البقاء في منزله بدلًا عن نزوح محفوف بالعوز والحوجة. يتعايش مع حياة الحرب ويذهب لشراء الاحتياجات من سوق الكلاكلة اللفة.

اختفاء أسواق دقلو

يشتري الرجل الخمسيني الذي يقيم مع عائلته كيلو العدس بـ (6) آلاف جنيه، وكيلو السكر بخمسة آلاف جنيه، ويستغني عن شراء الحليب المجفف لأن سعره باهظ وغير منتظم في الوفرة. كما لا يكترث لشراء الفواكه لأن الأولوية لتأمين الطعام، فيما يباع نحو ثلاثة كيلو من دقيق طحين القمح بـ (16) ألف جنيه.

في الأسابيع الأولى للحرب، كانت السلع متوفرة في الأسواق المنتشرة، وأطلق المواطنون على بعضها "أسواق دقلو". ومع تقدم الوقت، انحسرت خاصة مع نفاد السلع والأجهزة والمعدات المنهوبة من الأسواق والمنازل بواسطة هذه القوات المُتهمة بالنهب والاستيلاء على أصول ومقتنيات تُقدر بمليارات الدولارات.

من حسن حظ السكان في بعض أحياء الكلاكلة اللفة أن الكهرباء متوفرة، ولم تقع خسائر كبيرة في هذا القطاع. ويعتمد المواطنون في الإنترنت على محلات تبيع نصف ساعة بـ (2500) جنيه منذ انقطاع الاتصالات العامة في شباط/فبراير الماضي.

يقول متولي لـ"الترا سودان" إن المواطنين يتزودون بالإنترنت من المحلات التجارية التي لديها خدمة ستارلينك المرتبطة بالأقمار الاصطناعية، ولكنها تخضع لمراقبة الدعم السريع. الناس يتحدثون في بعض الأحيان بتوجس لأن هذه القوات قد تلقي عليك الاتهامات بكل سهولة بأنك متعاون مع الجيش.

ويضيف: "معظم المواطنين يأكلون وجبة واحدة في اليوم، عادة تكون في الفترات المسائية. إذا حاولت توفير ثلاث وجبات، من أين لك بالمال أو حتى القدرة على الذهاب إلى سوق يكتظ بالرجال المسلحين يوميًا؟"

النزوح مجددًا

حاول بعض المواطنين العودة إلى منازلهم من مدن النزوح أملًا في تمزيق فواتير باهظة لإيجار المنازل. ومع الأنباء المتواترة عن انحسار المعارك واستقرار الكهرباء في بعض المناطق بالعاصمة الخرطوم، قرروا العودة. لكن هذا الخيار ربما لم يناسب أغلبهم، خاصة تلك الأحياء الواقعة تحت سيطرة الدعم السريع مثل جنوب الخرطوم.

مواطن: الخدمة المصرفية الإلكترونية هي النافذة المالية الوحيدة التي يعتمد الناس عليها لتأمين الطعام

عائلات قررت العودة إلى الكلاكلة اللفة الشهرين الماضيين نزحوا مجددًا، حسب متولي، لأنهم لم يتمكنوا من التعايش مع هذا الوضع. بعض الناس لا يمكنهم الاعتماد على خدمات ستارلينك لتلقي التحويلات المصرفية الإلكترونية.

وتابع: "الخدمة المصرفية الإلكترونية هي النافذة المالية الوحيدة التي يعتمد الناس عليها لتأمين الطعام. ربما يكون الوضع أفضل بعض الشيء إذا عادت خدمة الاتصالات العامة لأنها توفر خيارات متعددة في تلقي التحويلات المالية".