07-أغسطس-2023
ناجية من عنف جنسي

صورة ترميزية (Getty)

كان يومًا عصيبًا، راودتها فيه العديد من الكوابيس، كيف تستطيع نسيان ذلك الألم؟ ذاكرتها مشوشة وضميرها يؤلمها. صرخت في والدتها: "لماذا لم ننزح مبكرًا؟" هكذا يقول ضمير المغتصبة عند الخروج في رحلة البحث عن مكان آمن.

الناجيات يملكن في قلوبهن وطنًا كبيرًا وذكريات لا يمكن محوها، صادقات جميلات الخلق لكل من عرفهن

في ذلك الصباح الباكر والسماء مكسوة بسحب الدخان، تفوح رائحة الموت من كل مكان، عبرت السيارة التي تقلها مع والدتها بإحدى شوارع الخرطوم الشهيرة، ألقت نظرة من خلال نافذة السيارة إلى إحدى البنايات الشاهقة، حيث كانت تعمل في شركة للاستيراد والتصدير حينذاك؛ وكأي فتاة تعرضت للاغتصاب، تعاني القهر والانكسار، دخلت في موجة من البكاء الهستيري وهي تودع الخرطوم بنظرات مشحونة بالخوف من التهجير القسري من منزلها واللجوء إلى المجهول ــ مركز إيواء أو معسكر نزوح. رمقت مكان عملها مرة أخرى، فتغيرت معالم وجهها وتسرب الخوف إلى دواخلها مجددًا. شعرت بالتهديد وتحولت إلى حالة أقرب إلى الجنون؛ كأنثى فهي تبحث عن الستر من الفضيحة وشماتة زميلات العمل. وبصوت عالٍ كالت اللعنات للحرب؛ كيف أتزوج؟ ومنذ ذلك الحين واصلت في السباب واللعن ألف مرة كل صباح حتى بحّ صوتها. كل يوم تتساءل "بأي حق نُحرم من العودة إلى منزلنا وبأي حق تنتهك أجسادنا؟ لكنها الحرب" هكذا كانت هي وأمها تواسيان نفسيهما، فتصمت ولكن لم تصمت البنادق.

أدار السائق إحدى المحطات الإذاعية المحلية.. تسرب صوت يحمل خبر أعداد المغتصبات منذ بداية الحرب الدائرة بين الجيش والدعم السريع. تصريح منسوب إلى مديرة وحدة مكافحة العنف ضد المرأة في السودان سليمى إسحق: "تتعرض الفتيات بين (12) – (18) عامًا للتحرش الجنسي والاغتصاب". وثقت التقارير الدولية العديد من جرائم الاغتصاب الجماعي والفردي أثناء الحرب في دارفور من تحرشات وأشكال الانتهاكات على أيدي المليشيات والقوات العسكرية وغيرها. من أشهر حالات الاغتصاب ما حدث في مدرسة "طويلة" الثانوية في العام 2003 وأيضًا في منطقة "تابت" التي وردت في تقرير نشرته "هيومن رايتس وتش" بعنوان: رجال بلا رحمة في العام 2015، صدر التقرير إفادة ناجية: "أنا في غاية الأسف، لكن يجب أن تفهموا أن هذا لم يكن ذنبي، لقد كنت تحت إمرة رجال بلا رحمة. وأتمنى لو كان بمقدوري العودة بالزمن إلى ذلك الوقت". وكشف تقرير نشرته الأمم المتحدة حديثًا عن تعرض نساء وفتيات في السودان لانتهاكات مروعة، مشيرًا إلى إبلاغ فارات من الصراع عن وقوع حوادث عنف جنسي، تمثلت في الاغتصاب والاعتداء الجنسية والاستغلال والعنف الجنسيين.

https://t.me/ultrasudan

الناجيات يحملن في قلوبهن وطنًا كبيرًا وذكريات لا يمكن محوها، صادقات جميلات الخلق لكل من عرفهن، يذهبن إلى العمل كل صباح ويعدن مساءً محملات ببضعة هدايا لأطفالهن، وبعضهن يجلب دفاتر الدراسة وأخريات يأتين بحزم الحطب لإعداد وجبة تسد الرمق لمواصلة الحياة يومًا آخر.

في يوم من الأيام حدث شيء لا يصدق، بسبب اعتبار طرفي النزاع أن جسد المرأة مجرد ساحة معركة. عادت النساء إلى القرية راكضات بسرعة وهن يصرخن بصوت عالٍ، تجمع الأهل فزعين؛ ما الأمر؟ يقلن: "كنا نجمع الحطب، وإذا برجال يحملون أسلحة وليس لهم علامات عسكرية مميزة، حاصرونا، لم يكن ذلك محض صدفة، لقد كانوا يتربصون بنا ويراقبوننا منذ صلاة الظهر". وتقول إحداهن وهي تلهث: "لا نريد أن يحدث لنا شيء يغير حياتنا. أنا مقبلة على الزواج بنهاية الخريف".

يقول الشيخ القرية لقد خرجنا من المنطقة وما زلت أذكر زوجتي التي أحرقوها ورضيعها داخل المنزل، ما زلت أذكر مجلس الأنس تحت شجرة "النيم". سقط منا العديد في ذلك الهجوم الهمجي على قريتنا، لكن هذا المرة لن نسمح لهم بذلك.

لم يعصمهم الشهر الفضيل من فعلتهم، فقد تناوب ثلاثة شباب على اغتصاب فتاة، بإقليم النيل الأزرق، نشروا فيديو الجريمة على وسائط التواصل الاجتماعي. كيف يجرؤون على تدمير حياتها؟ هذا كان تساؤل الغالبية. ثم اشتعلت موجة من الغضب في مايو 2012، عندما  توجهت الناجية دون تردد إلى مركز الشرطة وكان تواطؤها بائنًا للعيان ولم تراعِ ما تعرضت له تلك الفتاة.. كيف يكون طعم العدالة والإنصاف؟ ما حدث لهن ترك أثرًا لا ينسى، أثرًا سكن قلوبهن، لا تشعر به إلا الناجية وأسرتها، أثرًا أكبر من الجرح وأعلى من دوي البنادق وأدكن من سحب الدخان العبثية.