في مثل هذا اليوم، قبل خمس سنوات وفي العاصمة البريطانية لندن، رحلت عن دنيانا السيدة فاطمة أحمد إبراهيم. وتعد فاطمة إبراهيم أول سيدة من منطقة الشرق الأوسط تتولى رئاسة الاتحاد النسائي الديمقراطي العالمي في العام 1991، وهي أول مرة تنتخب فيها امرأة عربية إفريقية ومسلمة ومن العالم الثالث لتولي هذا المنصب.
(85) عامًا أنفقتها فاطمة أحمد إبراهيم في الحياة، صنعت خلالها "أسطورة" أنها رائدة العمل النسوي في السودان
(85) عامًا أنفقتها فاطمة أحمد إبراهيم في الحياة، وصنعت خلالها "أسطورة" أنها رائدة العمل النسوي في السودان، والسيدة التي مهدت للأخريات طريق تحقيق تطلعاتهن وانتزاع مواقعهن في العمل العام، والمجاهرة بقضاياهن في البرلمانات والمجالس التشريعية.
أول امرأة في البرلمان
في العام 1965 اختار الناخبون السودانيون (365) رجلًا أعضاء في البرلمان، معبرين عن مسار "ثورة أكتوبر" التي صنعوها في العام 1964. الجديد هو أن امرأة وحيدة احتلت موقعًا بين الجالسين تحت قبة البرلمان. وكتب أمام اسمها أنها أول نائبة برلمانية في أفريقيا والشرق الأوسط، تأتي مدفوعةً بأصوات السودانيين مجتمعة؛ كانت تلك السيدة هي فاطمة أحمد إبراهيم.
في العام 1932 ولدت فاطمة أحمد إبراهيم. كانت ابنةً لامرأة من أوائل السودانيات اللائي نلن تعليمًا في البلاد، وهو ما دفع لاحقًا بالسيدة إلى أن تختط طريقها وتفتح المجال لأخريات في الحياة وفي معادلة التأثير في بلاد يجب أن يتسع مسارها للنساء والرجال معًا، وفقاً للقيم والأخلاق التي تشكل بنيته الكلية أو هكذا عاشت فاطمة أحمد من أجل قضيتها التي نذرت لها حياتها.
الالتحاق بالشيوعي
في العام 1954 التحقت فاطمة بعضوية الحزب الشيوعي السوداني عن طريق شقيقها الشاعر صلاح أحمد إبراهيم الذي كان يأتي بمنشورات الحزب ويثير معها النقاش خصوصًا المتعلق بقضايا الاشتراكية وتحليلها لاضطهاد المرأة، وهو ما كان مدخلها إلى صفوف الحزب.
لكن انضمامها إلى الحزب الشيوعي -وهي ابنة أمام مسجد- سرعان ما ولّد أسئلةً ولقي استغرابًا في مجتمعها. وعادةً ما تثير مثل هذه الخطوات سؤالًا رئيسًا يتعلق بالتوجهات الدينية للرجل مقرونًا بالطريق الذي سلكته ابنته نحو اليسار، مختارةً أن يسبق اسمها وصف (الزميلة) والعضو في الحزب الشيوعي السوداني.
تفسر فاطمة أحمد إبراهيم الأمر ببساطة؛ وكان تفسيرها أن والدها كان يرى أنه يخدم الفقراء من خلال إمامته في المسجد، بينما تخدمهم هي من خلال دعوتها إلى الاشتراكية والعدالة الاجتماعية من تحت قبة اليسار. كان تبريرًا موضوعيًا وصادقًا في الوقت نفسه؛ فقد ظلت السيدة تضطلع بجميع أدوارها في الحياة، بدعمٍ منقطع النظير من والدها إمام المسجد.
مساهماتها في قضايا المرأة
تدين النساء السودانيات بالفضل للست "فاطنة" التي ساهمت في أن تتبوأ النساء السودانيات مواقع جديدة، بعد أن كان عملهن محصورًا في التدريس والتمريض، وفي هذا لم تسبقها أيّ امرأة في العالم العربي أو الأفريقي.
كذلك نجحت في إقرار حق الأجر المتساوي للعمل المتساوي، والمساواة في العلاوات والمكافآت والبدلات وفي كل شروط العمل وفي حق الترقي لأعلى الدرجات وفي حق المعاش.
وأدت دورًا كبيرًا في إلغاء قانون المشاهرة الذي كان يفرض على المرأة العاملة تقديم استقالتها بعد الزواج لتعمل بموجب عقد عمل مؤقت شهرًا بشهر. وكان اهتزاز عروش الرجال وتراجعهم فيما يتعلق بقضايا المرأة مرتبطًا بقدرات فاطمة وبنظرتها إلى قضايا المرأة وفقًا للقيم السودانية.
عبدالله إبراهيم: استعانت فاطمة بنصوص من لينين المظنون فيه السفة والمشاعية، لتزجر التقدميين عن الإسفاف الجنسي باسم التقدم
فاطمة وهدى شعراوي
ويقارن الكاتب الصحفي السوداني والعضو السابق في الحزب الشيوعي السوداني عبدالله علي إبراهيم بين الدعوة إلى تحرير المرأة التي تبنتها فاطمة أحمد إبراهيم في السودان ودعوت تحريرها في مصر التي تبنتها الناشطة هدى شعراوي. وبحسب إبراهيم، فنداء تحرير المرأة عند هدى كان متعلقًا بخلع الحجاب، بينما كان الرمز عند فاطمة هو ارتداء الحجاب أو ما هو قريب منه، ويرد ذلك إلى تباين وضعي المرأة في مصر والسودان.
ويذكر في كتابه (فاطمة أحمد إبراهيم.. عالم جميل) أن فاطمة ومن خلال تمسكها بأسلوبها في الحشمة "هزمت عتاة خصوم المرأة في برلمان 1965 وجعلتهم يصوتون لمشروعاتها بشأن تقدم المرأة". ويقول إن فاطمة استعانت بنصوص من لينين "المظنون فيه السفة والمشاعية، لتزجر التقدميين عن الإسفاف الجنسي باسم التقدم".
وعند رئاستها للاتحاد النسائي (1956-1957) حرصت الناشطة الحقوقية على المحافظة على استقلال الاتحاد عن أيّ نفوذ حزبي أو سلطوي. وناضلت من أجل تعزيز دور المرأة السودانية ومكانتها في المجتمع. وأنشأت مجلة (صوت المرأة) التي أسهم في إنشائها عدد من أعضاء الاتحاد النسائي، وأصبحت رئيسة تحريرها.
وعقب انضمامها إلى الحزب الشيوعي السوداني، صارت من الأعضاء الدائمين في لجنته المركزية والمدافعين عن لوائه في كل المحافل، لتصبح فاطمة أيقونة جديدة عند الشيوعيين والشيوعيات. وعززت ذلك مواقفها الواضحة وشجاعتها النادرة ومبدئيتها تجاه قضايا الفقراء عمومًا.
فاطمة والشفيع
ارتبطت السيدة فاطمة أحمد إبراهيم بالقيادي الشيوعي الشفيع أحمد الشيخ رئيس اتحاد عمال السودان وعضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، وهو من منحها أمومة أحمد، قبل أن تعدمه حكومة النميري في أعقاب فشل انقلاب هاشم العطا.
ربما تكون هذه الحادثة أكثر ما أثر في حياة فاطمة السودانية التي ظلت وفية لذكرى الشفيع. ومثّل العام 1971 عام الأحزان عند فاطمة؛ فبعد أقل من (40) يومًا على وفاة والدتها، أعدم زوجها الشفيع، لكن لم يهزمها الحزن، بل جعلها أكثر التزامًا بمواقفها التي آمنت بها وواصلت مسيرتها في مواجهة نظام النميري ومن بعده نظام البشير.
انتقدت فاطمة الأوضاع السياسية والاقتصادية في سودان ما بعد الاستقلال. وقالت بهذا الخصوص: "ناضل الشعب السوداني من أجل الاستقلال، وخرج الاستعمار البريطاني فقط بجيشه وحكامه ولكن بقي عملاؤه، وأياديه الخفية ما زالت هي التي تتحكم في مستقبل بلادنا".
وبعد تجربة مريرة، اضطرت إلى مغادرة البلاد عام 1990، وواصلت نضالها في المهجر بتنظيم الندوات والمظاهرات وترتيب قوافل السلام إلى جنوب السودان وغيره.
وبعد اتفاق التجمع الوطني الديمقراطي المعارض مع الحكومة السودانية عام 2005، قررت العودة إلى السودان في أوائل عام 2006. وقالت عن نفسها إنها متمردة وأكدت أنها ستستمر في النضال -مهما حصل- حتى الموت.
موتها
وماتت فاطمة أحمد إبراهيم قبل خمس سنوات في لندن، ومثل كثيرين حُمل جثمانها إلى أم درمان، وتحديدًا إلى ميدان الربيع بحي العباسية. وقتها حدث هرج ومرج ومواجهات بين أعضاء في الحزب الشيوعي رفضوا وجود قيادات في حزب المؤتمر الوطني الحاكم يومها للمشاركة في تشييع سيدةٍ ظلت طوال عمرها تقاوم وجودهم.
تهاني أبوسن: عاشت فاطمة طوال حياتها من أجل أن تبقى المرأة السودانية في أعلى المجتمع ومن أجل ألا تدمع عيون الصغار
وفي الذكرى الخامسة لغيابها، تقول الناشطة في قضايا النساء تهاني أبو سن لـ"الترا سودان": "ليت لنا قلبًا يحب الوطن ويسع كل الفقراء مثل قلب فاطمة، ولسانًا يعبر عن قضاياهم ويرسم حلمهم الآتي، ليتنا كنا فاطمة، ليتفق حولنا الجميع مثل اتفاقهم على فاطمة". وتضيف تهاني: "على هذا الأساس يمكنك أن ترسم صورة (80) عامًا عاشتها فاطمة من أجل أن تبقى المرأة السودانية في أعلى المجتمع، ومن أجل ألا تدمع عيون الصغار، ومن أجل أن يكون السودان أولًا". وتختم إفادتها لـ"الترا سودان" بالقول: "ليت لنا مثابرة فاطمة وقدرتها على النضال لنحقق ما نصبوا إليه ونصنع سودان المساواة على أساس الحقوق والواجبات".