شهد السودان في الأيام الفائتة مواكب قبلية في ولايات كسلا والقضارف والبحر الأحمر والنيل الأبيض والخرطوم. وسلم الآلاف من منسوبي قبيلة الهوسا إلى جانب كيانات أخرى مذكرات إلى حكومات تلك الولايات بعد مواكب تضامنية، حوت مطالب بمحاسبة المتورطين في أحداث النيل الأزرق.
محلل سياسي: الدولة نفسها كمفسر للاجتماع البشري في السودان لم تتبلور بعد في مجتمع ما تزال القبيلة فيه المحدد الأساسي لسلوك أفراده
ويحذر كثيرون من تعاظم الدور القبلي على حساب أدوار المؤسسات الحزبية والدولة في السودان عقب نجاح الثورة في الإطاحة بنظام الرئيس المعزول عمر البشير (حزيران/ يونيو 1989 إلى نيسان/ أبريل 2019).
وفي إفادات سابقة لـ"الترا سودان" حذر أستاذ الاجتماع السياسي الدكتور مصعب عبدالقادر مما أسماه "قبلنة الواقع السياسي". وقال عبدالقادر إن محاولات توظيف القبائل للقيام بأدوار من صميم أدوار الدولة والمؤسسات الحزبية من شأنه أن يفرز "نتائج كارثية" لمستقبل الدولة السودانية.
ويفسر عبد القادر المشهد الحالي بأنه "ردة فعل طبيعية لحالة الاستقطاب الحاد" في الفترة السابقة من قبل جماعات سياسية ترى في هذه المجموعات الاجتماعية روافع لممارسة السلطة والحكم.
ومما يعضد ملامح الردة نحو الكيانات القبلية في السودان، عودة القيادات السياسية إلى جذورهم ومناطقهم الأصلية في سبيل الحصول على الدعم السياسي، كردة فعل للرفض الذي يواجههم في شوارع المدن. سلوكٌ لم يسلم منه حتى رئيس مجلس السيادة الذي خاطب أهله في منطقة نهر النيل في عطلة عيد الأضحى، بحديث فُسّر بأنه يحمل "دلالات عنصرية".
وتتهم قوى سياسية المكون العسكري باستخدام القبائل في تحقيق غاياته في السيطرة على السلطة وتمكين الانقلاب. وظهرت هذه الاتهامات على السطح في أعقاب تشكيل ما يعرف بالمجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة في شرق السودان بزعامة محمد الأمين ترك الذي طالب بإسقاط الحكومة الانتقالية المدنية وقتها مع ضرورة أن يحتفظ قيادات الجيش بمناصبهم في مجلس السيادة.
ونجح التحالف القبلي وقتها في إغلاق الطريق الرابط بين ميناء بورتسودان وبقية أجزاء البلاد، في وقت عجزت فيه السلطات الرسمية عن فرض هيبة الدولة وتطبيق القانون. وصرّح رئيس مجلس السيادة وقتها بأن مطالب ترك ومجموعته "مطالب سياسية" ويجب على قوى التغيير الجلوس معه لإيجاد حلولٍ لها. التصريح الذي فُهم منه أنه دعوة للمؤسسات القبلية لطرح مطالبها عن طريق الضغط بالقبيلة نفسها.
واتهم عضو مجلس السيادة في الحكومة المنقلب عليها محمد الفكي السلطات بأنها تتلاعب باستقرار الناس وحياتهم من أجل تحقيق مكاسب سياسية، لافتًا -في تدوينة له على صفحته بمواقع التواصل الاجتماعي- إلى أن ذلك "سيقود إلى حريق شامل في البلاد لن يبقي وراءه أي ميادين صالحة للتنافس السياسي المدني".
وأضاف الفكي أن انتقال الصراع الإثني بصورة عنيفة وسريعة من مدينة إلى أخرى، يوضح أن الأمر "مخطط له بدقة وليس تنادٍ عفوي من مجموعة من الغاضبين". وتابع: "إن التدمير الممنهج لسلمية الثورة ونقلها لمربع العنف حتى يتسنى فرض حالة الطوارئ والتعامل العنيف مع المحتجين، لن ينتج عنه استقرار"، معتبرًا أن الحل في إنهاء الانقلاب وعودة العسكر إلى ثكناتهم.
وفي وقت أشارت فيه تقارير إعلامية إلى انسحاب الأجهزة العسكرية من أماكن التوترات القبلية وعدم حسمها وفقًا للقانون، نفى الناطق الرسمي باسم القوات المسلحة العميد ركن نبيل عبدالله في حديث لـ"الترا سودان" الاتهامات التي وجهت إلى القوات المسلحة والأجهزة النظامية بأنها تقف وراء الانفلات الأمني، مشيرًا إلى أن هذه الاتهامات "مردودة على أصحابها وغير منطقية". وأضاف العميد أن الدولة لا يمكن أن تتسبب في توترات واضطرابات تعرض أمنها الوطني للخطر وتهدد بقاء الدولة نفسها. وزاد: "هذا أمر ينبغي ألا يخطر على بال أيّ محلل أو مجتهد أو باحث أو ناشط في الشأن السياسي، لأنه ببساطة إذا سلكت الدولة هذا المسلك لن تجد من تحكمه".
ويردّ المحلل السياسي والكاتب الصحفي حاتم إلياس في حديثه لـ"الترا سودان" ظهور ظاهرة "قبلنة العمل السياسي" بصورة أساسية إلى "اعتصام القصر الجمهوري" الذي أقامته قوى الحرية والتغيير (مجموعة التوافق الوطني) بحشدها للمكونات القبلية وخلقها معركة مع المكونات الأخرى في محاولة لإعادة "الصراع القديم في السودان" – على حد قوله.
وبالنسبة إلى حاتم، فإن حشد القبائل وقياداتها بواسطة تحالف سياسي وإهمال تأثيرها من قبل حكومة الفترة الانتقالية هو "نتاج عدم وعي وإدراك لطبيعة الحراك الاجتماعي في السودان"، مشيرًا إلى أنه ما قاد إلى النتيجة الراهنة وهو ذاته ما يؤهل الأوضاع لمزيدٍ من التعقيد - وفقًا لتعبيره.
لكن بالنسبة إلى الحزب الشيوعي، فالاتجاه نحو قبلنة الواقع السياسي في السودان تتحمله بدرجة كبيرة الحركة الشعبية شمال ببحثها عن زيادة رصيدها من الداعمين على الأرض مثلما حدث في النيل الأزرق. ويقطع الشيوعي القول بأن مبتدأ الأزمة ومنتهاها في اتفاق جوبا للسلام ويحمله المسؤولية عن هذه الردة.
ويحدد المحلل السياسي وأستاذ العلوم السياسية بجامعة النيلين الدكتور لطفي طه مجموعةً من العوامل التي ساهمت في الردة نحو القبائل في السودان، وأول هذه العوامل -بحسب لطفي- هو العجز عن بناء المؤسسات الحزبية ومن بعدها بناء الدولة نفسها كمؤسسة محددة للانتماء. وبالنسبة إلى لطفي، فإن الأمر يرتبط أيضًا بقدرة مؤسسات الدولة على حماية المواطنين وتطبيق القانون.
ويضيف لطفي أن الدولة نفسها كمفسر للاجتماع البشري في السودان "لم تتبلور بعد" في مجتمع ما تزال القبيلة فيه "المحدد الأساسي لسلوك أفراده"، وهو فراغ تتحمل مسؤوليته المؤسسات المدنية التي عجزت عن إنجاز التغيير – طبقًا للطفي. كما أن استخدام القبيلة الآن يشبه إلى حد بعيد استخدامها في وقت سابق في صناديق الاقتراع؛ حيث تعودت القيادات أن تعود إلى حواضنها الاجتماعية لتحصيل الأصوات التي تقودهم نحو كراسي السلطة في الخرطوم – بحسب لطفي.
لطفي طه: التراجع عن "قبلنة السياسة" لن يتم بهدم القبيلة كمؤسسة وإنما ببناء مؤسسات تصلح كبديل موضوعي يمهد لبناء سودان المواطنة المتساوية
ويختم لطفي إفادته لـ"الترا سودان" بالقول إن التراجع عن مشهد "قبلنة السياسة" لن يتم بهدم القبيلة كمؤسسة وإنما عن طريق بناء المؤسسات التي تقوم بأداء أدوارها بدقة تصلح كبديل موضوعي يمهد لبناء "سودان المواطنة المتساوية".
وتتهم مجموعات عديدة النظام البائد بمحاولة توظيف القبلية من أجل العودة إلى السلطة مرة أخرى. وتحمل جهات جهاز المخابرات العامة مسؤولية صناعة هذه الأزمات، بينما يقول فريق آخر أن غيابه وهو الذي كان لديه دائرة متخصصة في القبائل هو ما أدى إلى هذا الواقع المتأزم.