في مقابلته مع "الترا سودان" تحدث المدير الأسبق لمعهد أبحاث السلام بجامعة الخرطوم محمد محجوب هارون عن منبر جدة ومستقبل السودان ومخاطر انقسام هذا البلد.
د. محمد محجوب هارون لم يظهر تفاؤلًا مطلقًا ولا حالة تشاؤم مطلق، وبين هذا وذاك يضع هارون مجموعة من الشروط لتحقيق نوع من "المصارحة والتصالُح" في السودان
د. محمد محجوب هارون لم يظهر تفاؤلًا مطلقًا ولا حالة تشاؤم مطلق، وبين هذا وذاك يضع هارون مجموعة من الشروط لتحقيق نوع من "المصارحة والتصالُح" التي ذهبت بنماذج أفريقية في رواندا وجنوب أفريقيا نحوالمستقبل، فإلى مضابط الحوار.
- ما هوالمتوقع كأقصى حد من مفاوضات جدة، وهل هناك أمل في حدوث اختراق؟
- تطاول أمد حرب الخامس عشر من نيسان/أبريل 2023 إلى مدى لم يكن في حسابات الدعم السريع ولا الجيش السُوداني ولا قطاعات الرأي العام المحلي عبر انقساماته في الموقف تجاه الحرب. هذا المدى الطويل نسبيًا للحرب أفرز واقعًا عسكريًا على الأرض إذ تراجعت المقدرات العسكرية والحضور الميداني للدعم السريع، وعلى نحوخاص في العاصمة الخرطوم.
كما أن كُلفة الحرب البشرية والمادية تتصاعد باضطراد. الجيش السُوداني نفسه دفع، وما يزال يدفع، كلفة عالية جدًا هُوالآخر. والتأثيرات السلبية للحرب في المحيط الإقليمي يتصاعد الإحساس بها، العالم "ما يُعرف بالمُجتمع الدولي" كذلك يقدُر، وسيقدّر أكثر، خطر استمرار الحرب في السودان عليه، على الأقل بحسابات العبء البشري الذي يتحمله لجوءًا ونزوحًا وتحديات أمنية.
يعود الجيش الوطني والدعم السريع إلى طاولة التفاوض في هذا السياق. أرجّح أن تفاهمًا سيتم ببطء وبتعقيدات يتسبب فيها موقف المتحاربين. أعتقد أن تقدمًا بطيئًا في الملفات العسكرية والأمنية والإنسانية سيقع، لكن يبقى التفاوض مشوارًا طويلًا، وربُما متقطعًا.
- وهل لدى الدعم السريع قابلية للاندماج في الجيش؟
- الدعم السريع جيش شبه نظامي تأسس على قاعدة مقاتلين من خلفيات قبلية. الضعف القيادي الناتج عن تراجع مقدراته العسكرية وغياب قائد الدعم السريع، محمد حمدان دقلو(حميدتي) عن المشهد العسكري والسياسي من شأنه أن يُفضي إلى تفكك الدعم السريع لمجموعات مقاتلي قبائل وجماعات متفلتين، بالطبع جنبًا إلى جنب جماعة نظامية ممّن تبقى من مقاتلي الدعم السريع. بالضرورة في حال تم اتفاق تفاوضي سيلتحق بعض مقاتلي الدعم السريع بالجيش وبالأجهزة النظامية الأخرى، مثلما حدث بعد اتفاق نيفاشا (2005) بين الحركة/الجيش الشعبي والحكومة السُودانية.
الجيش مؤسسة متجذرة تقاليدها في العمل وقادرة على استيعاب القادمين الجدد في صفوفه.
- كيف يمكن بناء طبقة سياسية غير مستشاكسة وتأسيسها على مبدأ عدم رهن القرار للخارج؟
- ما أسميته تشاكس هو واقعٌ ماثل وممتد تاريخيًا عبر حِقَب السياسة الوطنية في سُودان ما بعد الاستقلال الثاني (1956)، والواقع هو أنّ الفضاء السياسي يتشكل من قوى متخندقة في هويات حزبية وتيارية تخرّج بها السياسيون من النظام التعليمي في مستوياته المختلفة، ونحن نحتاج بالطبع لطبقة قائدة من المتعلمين وقادة المُجتمع، تحمل رؤية تتجاوز أسئلة الهُويّة والمصلحة الكيانية والشخصية الضيّقتين إلى سؤال المصلحة العُمومية المشتركة (Common Interest)،
وهذا ما يمكن أن يمثّل مفتاحًا للخروج من الخنادق لبناء قاعدة توافق وطني عريض على أساس تعريف متفق عليه للمصلحة العُمومية هذه، والالتزام السياسي والدستوري والقانوني بالسعي لتحقيقها على الصعيد العملي.
هذه يمكن أن نراها في نموذج جنوب أفريقيا لما بعد الأبارتايد المعروف بـ"المصارحة والتصالُح"، ورواندا لما بعد مجازر التطهير العرقي في "إعادة بناء التدامج الوطني"، وغيرها من النماذج ما يمكنه أن يعيننا على تصميم نموذجي سوداني يُبنى عليه مشروعٌ سياسي وطني نخرج به من مستنقع التخندُق والانقسام السياسي، ونسخّر من خلاله السياسة لتحقيق المصلحة العُمومية في تجلياتها العملية المختلفة.
- ما هومستقبل الإسلاميين؟ وهل فعلا هناك انقسام بين مؤيد للحرب ورافض لها؟
- وقع حوض الإسلاميين العريض، بل وحلفاؤهم خلال حقبة حُكم الإنقاذ/البشير - وقعوا تحت تأثير صدمة تغيير 11 نيسان/أبريل 2019. ما كان تغييرٌ بهذا الحجم مُتوقعًا لجماعات كبيرة داخل هذا الحوض، وعاشت قطاعات من منسوبيه تحت حالة ترويع شديد بشعارات استهدفتهم مثل: "كل كوز ندوسوا دوس"، "الفلول" و"إزالة التمكين" ..إلخ، كما لم ينشط الإسلاميون في إجراء المراجعات الفكرية والسياسية المطلوبة، ربّما جُزئيًا بسبب حالة التجريم المكارثي الذي تعرضوا له، ولانشغال تكوينات لهم بتأمين مجرد حق الوجود كتكوينات سياسية أوحتّى كمواطنين.
وربّما انشغل آخرون في الوقت ذاته بالعمل على استرداد سلطتهم التي لم يروا أنّ ما وقع من تغيير كان حُكمًا على نظام حُكمهم بعدم الصلاحية، وأن سلطتهم استُلبت منهم.
الواقع أن تنظيمات الإسلاميين السياسية مُتعبة، والجديدة منها لم تتمكن من تقديم نفسها بما يوفر فيها الجاذبية التي تصنع منها تكوينات ذات جماهيرية واسعة وقبول عريض.
أمّا الانقسام داخل تيار الإسلاميين فليس واقعة مُستحدثة بل امتداد لتاريخ يمتد إلى ما قبل الحقبة الإنقاذية/البشيرية. لكن الإسلاميين يتجاوزون كونهم تكوينات سياسية إلى تيار مُجتمعي عريض متجذر اجتماعيًا وثقافيًا.
وهو تيار مجتمعي من حيث كونه يستند على الثقافة الغالبة للسُودانيين "المسلمون ذوي الحساسية العالية في التماهي مع الدين"، في مقابل تيارات سياسية حديثة تضع نفسها، إلى حدّ ما، في مقابلة/تصادم مع ثقافة السواد الغالب من السُودانيين مثل اليسار الماركسي ومجموعات المستغربين المتماهين مع الثقافة الغربية الحداثية غير المكترثة لسُلطة الدين.
من هذه الزاوية سيبقى للإسلاميين جذرٌ ممتدٌ في الفضاء العُمومي الوطني، ثقافة وسياسة ومجتمعًا. أمّا من ناحية موقف حوض الإسلاميين من الحرب الجارية فإنّنا نجد طوائف من الإسلاميين تحمل السلاح جنبًا إلى جنب الجيش الوطني. الغريب أن هناك إسلاميون يقاتلون إلى جانب الدعم السريع، لكن الراجح أن المنطلقات التي حملتهم إلى ذلك تعود إلى ارتباطات عشائرية وقبلية وحسابات مصالح خاصة.
السواد الغالب من الإسلاميين يؤسسون موقفهم الموالي للجيش من زاوية الحفاظ على عَظم الدولة مقابل تهديد الدعم السريع لكيانها [الدولة] ولكيانهم كذلك.
- هل السودان مهدد بالانقسام؟
- نعم. تآكلت الدولة في العقود الأخيرة بعد الاستقلال الثاني إلى يومنا هذا هيكليًا ووظيفيًا وأدائيًا. يحدث ذلك لحالة عجز قيادي وحوكمي (إداري). والسودان بلد متخلّف (Underdeveloped)، وشاسع جغرافيًا، وفطير التكوين القومي بعد، حيث تعلّوالهُويات الطبيعية ما دون الوطنية لدى سواد غالب من مواطنيه. وهكذا تضعفُ مُمسكات الوحدة، إلى حد بحث قطاعات واسعة من مواطنيه عن الأمن والمصلحة لدى العشيرة والقبيلة والإقليم، أو لدى النصير الخارجي عند طوائف المواطنين الذين لا تتوفّر لديهم قواعد عصبية عشائر أو قبيلة أو ملاذ إقليمي/جُغرافي.
كما أنّ ثمة تصيّد خارجي لطامعين في موارد السودان وإمكانياته الكامنة يعزّز حالة وَهَنِه المستمر، ما من شأنه أن يزيد من قابلية البلاد للتفكك.