انطلقت مسيرات شعبية في شوارع مدينة الفاشر مساء الخميس، عقب إعلان القوات المسلحة والقوات المشتركة والمتطوعين التصدي لهجوم شنته قوات الدعم السريع، والحصول على مركبات قتالية وأسر العشرات من قوات حميدتي.
تمكنت القوات المسلحة، بالتحالف مع القوات المشتركة وانخراط مئات المتطوعين في القتال ضد الدعم السريع من الاحتفاظ بمدينة الفاشر
وذكرت مراسلة حربية من الفاشر، في مقطع فيديو نشرته القوات المسلحة في وقت متأخر من الليل، أن الجيش والقوات المشتركة والمتطوعين انتصروا انتصارًا كاسحًا على "مليشيا التمرد". وأشارت إلى أن الخطوط الأمامية أحرزت تقدمًا كبيرًا.
تأتي هجمات الدعم السريع على مدينة الفاشر مقتربة من (90) يومًا، على الرغم من تحذيرات وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بأن هجوم قوات حميدتي على الفاشر يعقد مهمة الذهاب نحو مفاوضات وقف إطلاق النار.
الفاشر تتجه نحو التدويل
تمكنت القوات المسلحة، بالتحالف مع القوات المشتركة وانخراط مئات المتطوعين في القتال ضد الدعم السريع، من الاحتفاظ بمدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، منذ بداية الحرب منتصف نيسان/أبريل 2023. فيما بدا أن أزمة الفاشر في طريقها إلى التدويل والاستقطاب الدولي حسب مراقبين دبلوماسيين.
يقول المحللون الدبلوماسيون إن سقوط الفاشر يعني خروج كامل إقليم دارفور من سيطرة الجيش السوداني، الذي لديه قدر معقول من شرعية الدولة. وقد يقود فقدان هذه المدينة المكتظة بالسكان إلى إظهار ملامح التقسيم في البلاد لأول مرة منذ اندلاع القتال.
عمليًا، تسيطر قوات الدعم السريع على أربع ولايات في إقليم دارفور، واحتفظت بها قبل نهاية العام الماضي، فيما استعصت الفاشر أمامها، وعزز ذلك التحالف بين الجيش والقوات المشتركة التي تتألف من عناصر الحركات المسلحة والمتطوعين من أبناء الولاية والمجتمعات المحلية، التي تصر على عدم الاستسلام أمام قوات حميدتي.
معارك فوق أنقاض المدينة
بعد أكثر من (90) يومًا من المعارك الحربية والقصف المدفعي والجوي، وتقلص العمليات التجارية وتوقف الأسواق وخروج غالبية المستشفيات من الخدمة، تبدو الفاشر وكأنها تقاوم فناء آخر معاقل الإقليم بالنسبة للجيش السوداني. تشاهد بوضوح المخلفات العسكرية وقد انتشرت في الشوارع، بينما تقدم بضعة مقاهٍ المشروبات الساخنة للرواد، وهم في ذات الوقت يبحثون عن خدمة الإنترنت الفضائي إثر توقف شبكة الاتصالات منذ شباط/فبراير الماضي. كما توقفت خدمة الكهرباء بسبب الأعطال في المحطة الرئيسية، واستعانت المتاجر وبعض الأفراد بالطاقة الشمسية. وتعمل بعض المحال على بيع خدمة شحن الهواتف النقالة.
محطة المواصلات العامة وسط المدينة غير منتظمة في العمل بسبب الوضع العسكري، فالقذائف القادمة من مناطق تمركزات الدعم السريع تحيل حياة الناس إلى جحيم. أحيانًا تستمر القذائف ثلاثة أيام متوالية، ثم تهدأ لبعض الوقت. وقد يتنفس المواطنون الصعداء ليومين إذا انحسرت المدافع.
عُرفت الفاشر بالتجارة الحدودية مع دول الجوار والأنشطة المالية وأسواق الماشية والمحاصيل. وبفعل الحرب الحالية، تحولت الغالبية إلى مجتمعات تنتظر العون الإنساني، إما من غرف الطوارئ والمطابخ الجماعية أو المنظمات الإنسانية. وإذا ما حصلوا على وقت يشعرون فيه بالأمان جراء انحسار الاشتباكات والمدافع، لا يترددون في العودة إلى أنشطتهم اليومية.
في السوق الرئيسي، تحيك النساء الأقمشة ويصنعن القبعات والحقائب والأدوات الفلكلورية، في نشاط يستمر منذ سنوات طويلة جراء تشكل أحزمة مجتمعات النزوح بسبب الحرب، التي لم تفارق الإقليم الوالغ في الصراعات المسلحة، نتيجة تعقيدات الدولة المركزية ونقص التنمية، كما يقول الباحثون في قضايا المنطقة.
تسرد النساء قصصهن الحزينة على مسمع أعضاء غرف الطوارئ من الشبان والفتيات. يتحدثن عن فقدان أشقائهن "ما بين حربين"، حرب لم تضع أوزارها من العام 2002 حتى 2020، وحرب بدأت للتو لتقضي على الأخضر واليابس، وتجعلهم يفقدون للمرة الثانية أفراد العائلة في الهجمات العسكرية، أو الموت جوعًا على الطرقات.
أجيال ولدت في المخيمات
مخيمات مثل زمزم وأبوشوك تعتبر من أكبر مخيمات إقليم دارفور التي تقع في أطراف مدينة الفاشر. ورغم أنها تحولت إلى مدن تضم مئات الآلاف من النازحين، إلا أنها لم تنجُ من الحرب الدائرة، حيث تظهر على جدران المنازل آثار القصف المدفعي أو رصاص الرشاشات.
وتقول أمينة حسين، الباحثة الاجتماعية والمتخصصة في قضايا النزوح، إن نساء إقليم دارفور اكتوين طويلًا بنيران الحرب التي لم تهدأ منذ بداية الألفية الثانية حتى اليوم، ينتقلن من مخيمات النزوح إلى الملاجئ داخليًا وخارجيًا.
وتشير إلى أن عدد النازحين في إقليم دارفور قبل اندلاع حرب منتصف نيسان/أبريل 2023 كان حوالي ثلاثة ملايين شخص. عقب اندلاع الحرب، أصبح جميع سكان إقليم دارفور نازحين، والنسبة الأقل من السكان الذين لم يغادروا بيوتهم لا تزال في أحياء مدينة الفاشر.
وتقول أمينة حسين إن الحرب أثبتت عدم قدرة الدولة المركزية على السيطرة، وبالتالي الحل في الحكم الفيدرالي ومنح الإقليم الحكم الذاتي مع الوحدة على المشتركات الأساسية مثل الجيش والعلاقات الخارجية والبنك المركزي.
وأضافت: "لا يمكن تحقيق عدالة اجتماعية للسكان المتضررين من ويلات الحرب دون الالتزام بالحكم الفيدرالي الذي يوزع الموارد بعدالة وحسب الكثافة السكانية".
عقود من الصراع المسلح في إقليم دارفور أجبرت أجيالًا على الترعرع تحت كنف موجات العنف، حيث نشأوا في مخيمات النزوح. فالأطفال الذين ولدوا عند بداية القتال بين الحركات المسلحة ونظام حكم الرئيس السابق عمر البشير في العام 2002 أصبحوا اليوم على أعتاب سن العشرين، أي مرحلة دراسة الجامعة.
بين الوعيد والتصميم
في الإقليم الذي لم يلتقط أنفاسه لفترات طويلة من العنف، تتوعد حسابات على الشبكات الاجتماعية موالية لقوات الدعم السريع باجتياح مدينة الفاشر مهما طال الوقت. فيما يظهر العسكريون من القوات المسلحة والقوات المشتركة تصميمًا على عدم الاستسلام.
ناشط: صمود الفاشر يعود إلى وجود ذات التصميم الموجود لدى قوات الدعم السريع في السيطرة على المدينة لدى مقاتلي الحركات المسلحة والقوات المسلحة
عندما تبدأ هجمات الدعم السريع على الفاشر من الناحية الشرقية والشمالية، يتذكر السكان سيناريو مدينة الجنينة، التي اجتاحتها في أيار/مايو 2023 بعد أقل من شهر من بداية القتال بين الجيش وقوات حميدتي، حيث ارتكبت قوات الدعم السريع مذابح بحق المدنيين. وتقول الأمم المتحدة إن هناك تقارير موثقة حول وجود مقابر جماعية في ولاية غرب دارفور.
من يتنفس طويلًا ينتصر
هذا السيناريو، وفقًا لمحمد آدم، الناشط في قضايا إقليم دارفور. أفاد أن آلاف المتطوعين يطلبون التسليح من القوات المسلحة، وعلى الفور ينطلقون في الشوارع لصد هجمات الدعم السريع.
يقول آدم لـ"الترا سودان" إن صمود الفاشر يعود إلى وجود ذات التصميم الموجود لدى قوات الدعم السريع في السيطرة على المدينة لدى مقاتلي الحركات المسلحة والقوات المسلحة. وبنفس أدوات قوات حميدتي، بالاعتماد على عربات الدفع الرباعي وكثافة النيران.
وأضاف: "أي انتصار للجيش والقوات المشتركة على الدعم السريع مرتبط باستخدام نفس تكتيك العدو، مثل كثافة النيران والسرعة والمباغتة".
ويرى آدم أن بقاء الفاشر تحت سيطرة الجيش والقوات المشتركة والمتطوعين من أبناء الولاية خلال الشهر القادم قد يؤدي إلى تراجع قوات الدعم السريع عن هجماتها المتواترة منذ آذار/مارس الماضي.
وتابع: "التركيبة النفسية لقوات الدعم السريع تعتمد على السرعة في إنهاء المعارك العسكرية لصالحها، وكلما تأخر الوقت، تشعر بالإحباط ويغادر غالبية المقاتلين القادمين من وراء الحدود".