قبل سنوات أصدر الكاتب السوداني والروائي أمير بابكر، كتابه المعنون بـ"الغولاغ الإريتري"، ويحكي فيه عن تجربته في سجون إريتريا؛ السجون التي تقع تحت الأرض، وما يحدث فيها من انتهاكات لا يتصورها عقلٌ بشري، لذلك سمى الكتاب على الغولاغ السوفيتي سيئ الصيت. أوان صدور هذا الكتاب حدثت ضجة كبيرة أوساط السودانيين ذوي العلاقات الاجتماعية والثقافية مع الإريتريين، ومثّل نقلة نوعية في فهمهم لواقع الشعب الإريتري، بعيدًا عن الصورة الثوريّة الجميلة للرئيس إسياس أفورقي وحزبه؛ إذ أن كاتب الكتاب معتقل سوداني في معتقلات إريتريا، جاءها ككثيرين للاحتماء والنضال منها ضد نظام المخلوع عمر البشير.
رفع الثوار شعارات تضامن مع الشعب الإريتري في ساحة اعتصام القيادة، ولكن موقف الحكومة الانتقالية في مجلس حقوق الإنسان كان عكس اتجاه الجماهير
هذه النقلة اتصلت بنشاط قديم لشخصيات سودانية معروفة دعمت الشعب الإريتري في مرحلتي الثورة والدولة، وانضم لها جيلٌ جديد، بجانب نضاله ضد حكومة الإنقاذ الآفلة، كان يتحين الفرص المناسبة ليعبر عن قضايا ومظالم الشعب الإريتري، ووصل هذا التضامن ذروته بمشاركة عدد من الإريتريين في ثورة كانون الأول/ديسمبر حتى دخول ساحة اعتصام القيادة العامة في السادس من نيسان/أبريل من العام الماضي. وفي يوم 14 نيسان/أبريل، الذي يصادف يوم المعتقل الإريتري، رُفعت لافتة من داخل الاعتصام تعبّر عن تضامن الثورة السودانية مع المعتقلين الإريتريين، لتصل المؤازرة مداها الأقصى.
الهدف الأول في الدقائق الأولى
بعد هذا الاستعراض للثوار السودانيين وتضامنهم مع مظالم وقضايا الشعب الإريتري، فلننظر لتعامل "حكومة الثورة" مع الإريتريين و مظالمهم: ففي أولى خطواته العملية كوزير للتجارة والصناعة قام الوزير مدني عباس مدني بمنع أي نشاط تجاري للأجانب، وتبع قراره حملة اعتقالات غير إنسانية طالت الإريتريين كانت حديث الساعة في وسائط التواصل الاجتماعي، وكشفت عن تعامل لا إنساني ينتهجه وزير حكومة ثورة يفترض فيه مراعاة حقوق الإنسان والتي هي واحدة من مركزيات الثورة السودانية.
اقرأ/ي أيضًا: إثيوبيا تتراجع عن تصريحاتها بملء سد النهضة ومجلس الأمن مستعد للنظر في الخلاف
المجلس الأممي لحقوق الإنسان
في آخر جلسات مجلس حقوق الإنسان، التي انعقدت في السادس عشر من تموز/يوليو الجاري، صوّتت حكومة السودان ضد تمديد فترة عمل مقررة حقوق الإنسان في إريتريا السيدة دانييلا كرافيتز، والتي شغلت هذا المنصب منذ فترة قصيرة، وهي المعنية بالتحقيق عن أوضاع حقوق الإنسان في إريتريا، ولكن الحكومة الإريترية لا تسمح لها بزيارة إريتريا؛ على الرغم من أن إريتريا عضوٌ في مجلس حقوق الإنسان لهذه الدورة.
في العام 2016، لم يكن السودان ضمن أعضاء مجلس حقوق الإنسان، ولكنه استغل جلسة المداولات ودافع عن نظام إسياس أفورقي بشدة؛ وهذا مفهوم باعتباره تحالف الديكتاتوريات، لكن ما الذي يجعل حكومة الثورة تصوت لصالح ديكتاتور كإسياس أفورقي؟
اقرأ/ي أيضًا: لماذا تأخر التوقيع على اتفاق السلام؟
ومن نافلة القول أن إسياس أفورقي منخرط في حلف الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، الدولتان اللتان تشنان حربًا على اليمن وتناصرهم مصر، والتي تشارك فيها قوات مسلحة من السودان وبالذات قوات نائب رئيس المجلس السيادي السوداني محمد حمدان دقلو، لكن ما دخل الثورة والثوار بذلك؟
باحث ومحلل سياسي: التصويت بشأن تمديد ولاية المقرر الخاص بحقوق الانسان في إريتريا، كان اختبارًا حقيقيًا لحكومة الثورة في السودان
بينما شغلت الظروف الاجتماعية والاقتصادية، الثوري وحاولت أن تحصر مهامه في لجان الأحياء لترتيب طوابير الخبز وتنظيم صرف الغاز، فإن السياسيين يبيعون أهداف الثورة العليا ومبادئها في مجلس حقوق الإنسان للحلفاء الذين يدفعون.
فشل حكومة الثورة في الاختبار
يقول الباحث والمحلل السياسي الخبير بالشأن الإريتري عبد الرازق كرار والذي استطلعه "ألترا سودان" إن "التصويت الذي جرى في السادس عشر من تموز/يوليو الجاري بشأن تمديد ولاية المقرر الخاص بحقوق الانسان في إريتريا إلى ثلاث سنوات، كان اختبارًا حقيقًا لحكومة الثورة في السودان، ولكن يبدو أن الحكومة قررت مع سبق الإصرار والترصد أن تفشل في هذا الاختبار. للأسف صوت السودان لصالح حكومة إريتريا، وهو الجار والقريب ويعرف أكثر من أي بلد آخر تفاصيل الانتهاكات المروعة لحقوق الإنسان في هذا البلد المغلق والذي يتدفق اللاجئون منه بالآلاف كل عام في السودان".
ويزيد كرار بالقول، إن مجلس حقوق الانسان هو مجلس مكون من حكومات الدول، وبالتالي يوجد بين عضويته عدد من كبار منتهكي حقوق الإنسان، حيث يتم التصويت لنيل عضويته أو اتخاذ قراراته ضمن التوزيع الجغرافي والمساومات بين الدول، وبالتالي فأن تصوت دول لصالح أو ضد مسئولياتها الأخلاقية أمرٌ غير مستغرب، لكن وضع السودان مختلف. حصل السودان على عضوية المجلس لأول مرة في تاريخه منذ تأسيس المجلس في تشرين الأول/أكتوبر 2019 عندما صوتت (175) دولة لصالح عضوية السودان، (175) صوتًا عددٌ كبير نسبيًا واضعين في الاعتبار التنافس والمساومات بين الدول. لكن هذا الرقم الكبير جاء اعترافًا بالتغيير الذي حدث في السودان وتشجيعًا له على السير في المسار الديمقراطي وترحيبًا به في المجتمع الذي يحترم حقوق الإنسان ويجعلها أحد الموجهات في مواقفه الداخلية والخارجية.
ويشدد كرار على أن قرار السودان بالتصويت ضد تمديد صلاحية مقرر حقوق الانسان في إريتريا ليس صدمة للإريتريين الذي عولوا كثيرًا على التغيير في السودان فحسب، بل حتى للدول التي صوتت لصالح السودان لينال هذه العضوية التي ظل محرومًا عنها طوال سنوات حكم النظام البائد، كيف سيكون حال الدول الإسكندنافية التي صوتت لصالح السودان وهي تراه يصوت ضد قرارٍ يتعلق بأقرب الدول إليه؟ كان يمكن للسودان أن يمتنع عن التصويت مثلًا رغم انه امتناعه أو تصويته ضد القرار لم يكن ليؤثر في النتيجة، ولكن مثل هذه المؤشرات مهمة في مسار العلاقات الدولية وأيضًا في ذاكرة الشعوب. يبدو أن السودان آثر إرضاء الاصطفافات الإقليمية على حساب القيم التي من أجلها قامت واحدة من أعظم الثورات في المنطقة.
ويوضح الباحث والمحلل السياسي، أن الحديث عن أن الدولة العميقة هي التي لا تزال تتحكم في الجهاز البيروقراطي حديث لا يسنده منطق، فعضوية مجلس حقوق الإنسان حصل عليها السودان في عهد حكومة الثورة، وكانت محل احتفال وترحيب منها وكل القوى الديمقراطية، واعتبرته واحدة من انتصاراتها الخارجية. ولكنها للأسف في أول اختبار استخدمته ضد قيمها الأساسية.
كان ذلك رأي عبد الرازق كرار، بينما يرى الصحافي السوداني والمهتم بالشأن الإريتري عادل كلر، أن "تصويت حكومة السودان الانتقالية ضد قرار تمديد فترة بعثة مقررة حقوق الإنسان، خطوة خطيرة تقدح وتتعارض مع التحول المفترض في الملف الحقوقي والعدلي والخارجي لحكومة حمدوك باعتبارها جنين شرعي يمثل ثورة كانون الأول/ديسمبر المجيدة، ويوضح بجلاء الحوجة الماسة لتفكيك عقلية الإنقاذ في ممثليات السودان الخارجية أو موفديها إلى مجلس حقوق الإنسان، وأهمية تغيير الكادر الوظيفي الذي يتولى ملف السودان في المجلس على ضوء السياسة الخارجية الرشيدة للحكومة الانتقالية تجاه حقوق الإنسان في الجوار الشقيق، وذلك من خلال استدامة العلاقات مع الشعوب لا الأنظمة، لا سيما نظام كدولة إسياس أفورقي".
اقرأ/ي أيضًا: هل تصمد الحكومة أمام هجوم السلفيين على التعديلات القانونية؟
ويضيف كلر أن "الموقف غير الأخلاقي والمخالف لمضمون المبنى الانتقالي، إنما يجيء في إطار إعادة تشكيل خارطة أنظمة دول القرن الافريقي والسودان خلف رايات المحور الإماراتي، وكحافز مباشر ضمن أتعاب اتفاق سلام "أبي-إسياس" لتأمين النفوذ الإماراتي على ساحل البحر الأحمر وجرف القرن الإفريقي، ويأتي كذلك كاشفًا عن تدجين الحكومة الإنتقالية رهنًا لإرادات الخارج، العالمي والإقليمي، وهي خطوة جديرة بأن تتصدر أجندة التصعيد من قبل المنظومة الحقوقية للمجتمع المدني في السودان وإريتريا في تقاريرها الموازية، باعتبار أن عضوية المجلس تقوم على أساس حكومات الدول الأعضاء".
ضعف الحكومة يمنح العسكريين مساحة جيدة للتحرك ولكن موقفها بالتصويت لصالح النظام في إريتريا فشل في اختبار لصدقها تجاه المبادئ التي أتت بها
على أي حال فإنه من الواضح أن موقف حكومة السودان في هذه المسألة يفسره خليط من الرأيين، فالحكومة الانتقالية المدنية ما زالت بالفعل ضعيفة ولم تفرض سيطرتها بالكامل على الدولة السودانية وأجهزتها في الداخل والخارج، الأمر الذي يمنح العسكريين مساحة جيدة للتحرك وفرض آرائهم حسب مصالحهم المباشرة في الإقليم والسياسة الخارجية التي يفرضها عليهم المحور الذي يميلون إليه، ولكن وعلى الرغم من أن تصويت السودان في القرار لصالح إريتريا لا أثر له في المجلس الأممي لحقوق الإنسان، إلا أنه بلا شك نقطة مظلمة في السياسة الخارجية وموقف خاطئ في اختبار حقيقي لصدق الحكومة الانتقالية تجاه المبادئ التي أتت بها والثورة السودانية المجيدة التي خرجت ضد نظام مشابه لنظام الديكتاتور إسياس أفورقي في إريتريا.
اقرأ/ي أيضًا