04-نوفمبر-2019

أكرم متظاهر فضل حجب هويته أثناء انخراطه في الثورة (Getty)

حينما تضعضعت كتلة الدول الشرقية بأوروبا وانهارت تحت وطأة الثورات المباغتة والكاسحة، كان ذلك السقوط هو انتصارًا لعهد الصورة بحسب عدد من المفكرين الغربيين. لقد اتخذت الدعاية الأمريكية والأوروبية الموجهة لتلك البلدان على مدى سنوات، من الصور سلاحًا موجهًا للمجتمعات المحاصرة خلف الجدران السميكة العازلة، لعكس فوارق الحياة بين المعسكرين الرأسمالي والشيوعي، وتبيان ازدهار النموذج الأول ودعة الحياة ومباهجها في شكل المباني والشوارع والمطاعم والبيوت بأثاثتها الفاخرة مصحوبة بوعود جنان الرأسمالية وبروقها الخُلب. في مواجهة التراجع الاقتصادي جراء تراكم الأزمات وصفوف الانتظار الطويلة للمواد التموينية المقدمة من الدولة، وشكل المباني الحكومية السكنية قديمة الطراز بل وحتى السيارات لم تسلم من الصور التهكمية.

كانت الحرب بين عالمين اتخذت من الإعلام ساحة القتال ودغدغة العواطف وإشاعة اليأس من الواقع القاتم

لقد كانت حربًا بين عالمين اتخذت من الإعلام ساحة القتال ودغدغة العواطف وإشاعة اليأس من الواقع القاتم، وفي ذات الوقت الترويج لنموذج زاهي للحياة غض النظر عن حقيقته الخفية، لقد انتصرت سطوة الصورة مدفوعة بما اعتمل داخل هذه الكتلة من مشاعر الغضب على ديكتاتورية متطاولة، بدأ أنها تسبح عكس تيار الزمن، بعد أن فارق لحظتها التي تجمدت عندها.

اقرأ/ي أيضًا: قوى الحرية والتغيير.. أداء مخيب للآمال

لكن الأمر لم يقتصر على طفرة الصورة الفوتوغرافية، فقد شهدت نهايات القرن العشرين تسارعًا غير مسبوق في التكنولوجيا جيلًا بعد جيل، وبعدما سادت ثقافة الحواسيب الإلكترونية، تمددت وتطورت الهواتف المحمولة حتى بدت في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين كأنها اختزال للعالم بين راحة الكف وطوع الاصابع. لتشكل هي والحواسيب الإلكترونية والقنوات الإخبارية المجانية حلقة نارية احاطت بالديكتاتوريات العتيقة، بنمط إجراءاتها التقليدية في التحكم في الرأي العام، والسيطرة على وسائل الإعلام التقليدية وتوجيهها والرقابة على ما ينشر فيها، وبتقديمها طرائق فريدة في تنظيم الشباب عبر غرف مغلقة بعيدة عن رصد ومتابعة فرق الأمن السياسي، ببساطة لقد صارت الديكتاتوريات تحكم ولا تتحكم. لقد خرجت الشعوب عن سيطرتها بالكامل وانهار خط دفاعها الأول القائم على التزييف والرقابة وغسل الادمغة. وباتت خسارتها لمعركة البقاء متعلقة بالزمن الذي يمهله لها الشعب، وصار البقاء نفسه محكومًا بمكاره تحول الديكتاتوريات إلى محض كاريكاتير ساخر ومؤلم يتم تغذيته يوميا بواسطة آلاف المدونين البارعين الأذكياء خفيفي الظل، وتوسعت قاعدتهم بشكل لم يعد متاحًا معه اللجوء للاعتقالات في مواجهتهم، نسبة لضخامة أعدادهم وللاسماء الحركية التي يتفننون في تأليفها، وفشلت حتى محاولات بناء دروع الكترونية مضادة، لقد كشفوا أمرها وهزموا مصداقيتها وللحق فإن من تولوا أمرها كانوا من الضعف والغباء الذي فضح كل مخططاتهم ومحاولاتهم في مهدها.

اقرأ/ي أيضًا: بروفايل ثوري.. سلسلة كتابات لانهائية

لقد اصطدم جهاز الدولة البيروقراطي القديم بمستحدثات العصر بشكل "تراجيكوميدي"، ولم تعد المعركة مع جهات سياسية تمتلك بنية بيروقراطية مشابهة، وتعتمد على الاجتماعات السياسية التقليدية والطباعة على ماكينات "الرونيو" والكتابة على الحائط والتعبئة المباشرة، والبيان والمنشور السياسي المطبوع، لقد صارت معركة غير متكافئة مع الآف الأشباح التي تتكاثر أعدادها وتتناسل صباح كل يوم، وتجد صدى في كل الأنحاء من أناس يشاطرونها ذات الفضاء، فذابت الحدود وتلاشت واتخذ التنسيق والتنظيم والحشد والتعبئة أشكالًا أكثر حيوية وسرعة واتساعًا. وصارت المعلومة مشاعة بشكل غير مسبوق حتى هددت الصحافة المكتوبة، بعدما حولت الهواتف النقالة ملايين البشر لإعلاميين وصحافيين متفرغين يكتبون ويرسلون الأخبار من مواقع الأحداث مع الصور والفيديوهات، ويخرجون بتسجيلات حية من قلب المواكب يصورون القمع في أشد تجلياته ويكشفون وجوه القناصة والعصابات السلطوية وهي تقتل وتضرب وتروع.

أسست ثورة كانون الأول/ديسمبر السودانية واحدة من أكبر عمليات التنظيم الحديث المعاصرة، لعبت فيها الهواتف المحمولة الدور الحاسم في إسقاط نظام

الإعلام الجديد.. التنظيم السياسي الحديث!

وقد كانت الصورة مدهشة بحق في ثورة كانون الأول/ديسمبر 2018 منذ بدايتها، حتى أن من انخرطوا في واحدة من أكبر عمليات التنظيم الحديث المعاصرة، لم يدركوا حتى الآن حجم ما قاموا به، ولا حقيقة أنهم فعليًا ساهموا عبر هواتفهم المحمولة في إسقاط نظام حكم البلاد لثلاثين عامًا.

لقد وثقوا لكل حراكهم. كانت التظاهرات تنقل حية بكل ما يواجهها من قمع، وقد وفرت هذه الهواتف المحمولة أكبر مصدر معلومات لكبريات القنوات الفضائية التي اغلقت السلطة الديكتاتورية مكاتبها وطردت مراسليها من البلاد، فبثت المواكب والتظاهرات بل أنها لشدة تدفق المواد الإعلامية اضطرت في بعض الأحيان لتقسيم الشاشة لتعرض أربع أو ست تظاهرات تدور في ذات الوقت في مختلف أقاليم البلاد، وبرزت أسماء لناشطين كمصدر للمعلومات الموثوقة وللحق فإن جهدهم وإبداعهم في نقل الأخبار وتوجيه الحشود فاق عمل وكالات أنباء متخصصة، لجهة الموثوقية وسرعة نقل الأخبار. ووثق المتظاهرون الانتهاكات المروعة التي مارستها قوات النظام وميليشياته، بدقة ساهمت في كشف عدد كبير من المنتهكين والمجرمين، وتولت مجموعة نسائية مغلقة على موقع التواصل الاجتماعي الأشهر "فيسبوك"، مجهولة الأعضاء تضم ما يزيد عن نصف مليون عضوة تسمى "منبر شات"، أمر الكشف عن أعداد كبيرة من قادة الأجهزة الأمنية من المشرفين والمشاركين فعليًا في قمع المتظاهرين في الشوارع، وتعذيب المعتقلين في الأقبية السرية، مما سبب حالة هلع غير مسبوقة لأجهزة السلطة، بعد انتشار صور واسماء وعناوين عناصرها القمعية التي ظلت طوال فترة حكم النظام البائد تتمتع بسرية مطلقة، ما حفزهم على التمادي في العنف الوحشي.

اقرأ/ي أيضًا: جنوب السودان.. جدل الولايات وإشكالية نظام الحكم

نظم مستخدمو الهواتف النقالة والإعلام الجديد وحشدوا للمواكب عبر دعاية احترافية قل نظيرها، شارك فيها المئات من أميز مصممي الجرافيكس المتطوعين. كان يطبعها ويوزعها شباب الثورة في الأحياء والشوارع الرئيسية ويقومون بإلصاقها على المتاجر والمباني، واستقطبوا عبر عمليات منظمة الدعم المالي والطبي لعلاج عشرات الجرحى والمصابين، وقادوا أكبر عملية تعبئة ودعم للثورة حتى عمت التظاهرات السودانية المساندة للثورة عواصم العالم، وبحشود غير مسبوقة أجبرت الرأي العام العالمي على التفاعل مع الثورة ودعمها وتأييدها.

أعظم توحد سياسي

ببساطة، لقد حل السودانيون بالإعلام الجديد المعضلة التي واجهت عملية إسقاط النظام الديكتاتوري بسنواته الثلاثين، وهي معضلة التنظيم والعمل الجماعي، وسخروا هذه التقنيات التطبيقات التواصلية بشكل إبداعي، في عملية توحد هي الأعظم طوال تاريخهم الحديث، انمحت فيها الفوارق والفواصل، وبدوا في لحظات فارقة من عمر الزمان، كأنهم أوركسترا تضم آلاف العازفين تعزف لحنًا واحدًا بلا توقف. وكانوا يعزفونه من الغرف المغلقة، ومن الأزقة والشوارع وسط الحشود تحت زخات الرصاص وغيوم الغاز المسيل للدموع، ومن عواصم العالم بشكل مذهل. ولا عجب أن صار مبلغ هم رجال الأمن هو مصادرة الهواتف وتفتيشها بحثًا عن صور أو أفلام تثبت ضلوع المقبوض عليهم واشتراكهم في الثورة. وحتى حينما قرر المجلس العسكري الانقلاب على السلطة تنفيذ مجزرة فض الاعتصام، أو ما قام به كان هو قطع خدمات الإنترنت عن كل البلاد، باعتبارها تمثل خطرًا ومهددًا "لأمنه"، لقد اسقط السودانيون أقنعة الدولة المتسلطة، وكشفوا وجهها المخبوء الذي طالما تحكمت في خروجه للعلن في عالمها القديم الذي لم يعد متاحًا اليوم.

حل السودانيون بالإعلام الجديد معضلة التنظيم والعمل الجماعي التي عطلت إسقاط النظام ثلاثين عامًا

لقد سادت مقولة أن "العالم صار قرية صغيرة" لسنوات، حتى هذه المقولة البراقة وقتها لم يدر بخلد مردديها أنهم سيشهدون يومًا تضمحل فيه المساحات حتى يدخل العالم أجمع لغرفة واحدة. يطل منها صبي صغير في أقصى ولايات السودان التي تفتقد للبث التلفزيوني والفضائي على مشهد للثورة السودانية والجزائرية في ذات اللحظة، فيقرر الانضمام للأولى ببلده، حاملًا علم الثانية، وهو يهتف "ثوار أحرار.. من الفاشر لوهران". إنها سطوة الإعلام الجديد تنتصر على الديكتاتوريات العتيدة. وانتصار الشرائح الصغيرة للحياة.

 

اقرأ/ي أيضًا

الحرية والتغيير.. الانتقال لخانة التحالف الحاكم؟

تجمع المهنيين.. هل هوى النجم أم خفت بريقه؟