كان لوسائل التواصل الاجتماعي دور كبير في إتاحة المعلومات لعامة الناس، كما سهلت تناقل الأخبار في ما بينهم، مما ألقى بظلاله على تشكيل وعي المجتمعات وإعادة تشكيله بما يناسب القيم التي أسهمت هذه الوسائل في إرسائها. كما كان لوسائل التواصل الاجتماعي دور مشهود في الحراكات السياسية التي اكتسحت العالم مؤخرًا في المجمل ولا سيما في المنطقة فيما عرفت بثورات الربيع العربي. وليست الثورة في السودان ببعيدة عن ذلك، فقد شكلت منصات التواصل الاجتماعي المختلفة الأنوية التي تناقل عبرها الثوار المعلومات، ونسقوا عبرها تحركاتهم المناهضة للنظام، ومواقفهم السياسية بعد سقوط النظام وتشكيل الحكومة الانتقالية والانقلاب عليها في الخامس والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر 2021.
شكلت منصات التواصل الاجتماعي منذ اللحظات الأولى للحرب المصدر الرئيسي للمعلومات لسكان السودان الذين وقعوا تحت الصدمة بعد سماع أصوات إطلاق النيران
تجاوزت بعض هذه التحركات العمل السياسي، وانخرط الفاعلون الاجتماعيون في أنشطة خدمية مع الأوضاع الطارئة التي صاحبت جائحة كورونا، وكذلك الحالات المتكررة للأوضاع الإنسانية التي تصاحب مواسم السيول والأمطار في ظل البنى التحتية المهترئة، وأيضًا حالات النزاعات المسلحة المختلفة التي وقعت خلال هذه الفترة.
تأتي حرب الخامس عشر من نيسان/أبريل في سياق سياسي وإنساني معقد، إذ تتحدث تقارير الأمم المتحدة عن تعرض أكثر من نصف السكان لخطر الجوع مع وجود الملايين مسبقًا تحت هذا الخطر. ويصاحب ذلك أنباء عن تحديات كبيرة يواجهها الموسم الزراعي هذا العام؛ هذا بالإضافة إلى التحدي السياسي الذي يشكله غياب حكومة تدير البلد لأكثر من عام ونيف نتيجةً للصراع على السلطة بين التيارات السياسية المدنية والعسكرية المختلفة.
شكلت منصات التواصل الاجتماعي المختلفة ومنذ اللحظات الأولى للحرب المصدر الرئيسي للمعلومات لسكان السودان الذين وقعوا تحت الصدمة بعد سماع أصوات الأعيرة النارية ودوي المدافع صبيحة الخامس عشر من نيسان/أبريل الماضي، حين أكد بث مباشر (لايف) على منصة "فيسبوك" المخاوف التي ظلت تتهامس بها شوارع الخرطوم بحدوث اشتباك بين الجيش والدعم السريع بمنطقة السوق المركزي. ومكن ذلك المواطنين من الابتعاد عن تلك المنطقة قدر الإمكان وتجنب حدوث مجزرة نتيجة لهذه المعركة. سرعان ما تلتها اشتباكات في مناطق متعددة من العاصمة كالقيادة العامة والقصر الجمهوري ومقرات الإذاعة والتلفزيون، وكلها مناطق حيوية يمر بجوارها سكان العاصمة في تنقلهم من وإلى أماكن عملهم. ومكن أيضًا الإنذار المبكر المواطنين من الابتعاد عن تلك المناطق قدر الإمكان.
تداول السودانيون أخبار تلك الاشتباكات في الساعات التي تلت انطلاقها، وسرعان ما تكشف المشهد بتحول العاصمة الخرطوم إلى منطقة عمليات حربية، ما دفع بجموع غفيرة من سكانها إلى اتخاذ قرار النزوح ومغادرة منازلهم، ولكن التزم الغالبية منازلهم نظرًا إلى التردد الذي صاحب صدور بيانات الطرفين وسردياتهم عن الصراع وترديدهم –ومناصروهم من خلفهم– لتأكيدات الحسم السريع للمعركة واقتراب "ساعة النصر". وشكلت الإشاعات التي صاحبت تلك السرديات أحد الأسباب الأساسية لتأخر اتخاذ غالبية سكان الخرطوم لقرار النزوح من المدينة، وذلك لأن منصات التواصل الاجتماعي سلاح ذو حدين، فبنفس السرعة التي تنتشر بها المعلومة تنتشر الشائعات وتتشكل حولها هالة من "المصداقية الكاذبة" بسبب التداول واسع النطاق.
صاحب انطلاقة الحرب إصدار التيارات السياسية المدنية ومنظمات المجتمع المدني والجهات العسكرية المختلفة بيانات سياسية بمواقفها من الحرب والأطراف المتحاربة وموضعها من الصراع، وصاحب تلك المواقف نقاش سياسي واسع بين الفاعلين في تلك الكيانات والمهتمين بالشأن السياسي في السودان في منصات التواصل المختلفة كونها المساحة الأسهل استخدامًا والأوسع انتشارًا في هذا النوع من المداولات.
ونظرًا إلى الطبيعة الصراعية للنقاشات المتداولة على منصات التواصل الاجتماعي وتحول الخطاب في أغلب الأحيان إلى خطابات تقسيم وحتى كراهية واتهامات بين المعسكرات المختلفة بالعمالة وخدمة الأجندة غير الوطنية والانتماء إلى النظام البائد الذي توجه إليه أصابع الاتهام في تخريب العمليات السياسية التالية لسقوطه وحتى التسبب في الحرب، ونتيجة لذلك انقسم الناشطون في هذه المنصات –ومتابعوهم من خلفهم– إلى فرق تدعم كل منها أطراف النزاع وأخرى تلتزم الحياد، وتتبادل الاتهامات فيما بينها بإطالة أمد الحرب والتسبب بها.
ألقى طول أمد الحرب –غير المتوقع– بظلاله على السودانيين في جميع المناطق المتأثرة بالعمليات العسكرية، بحدوث الانتهاكات التي تبدأ بالتعدي والسرقة وتصل إلى الإخفاء القسري والتصفية بناءً على الانتماء إلى أحد طرفي النزاع أو حتى الانتماءات الجهوية، وصاحبت هذه الانتهاكات حملات إدانة واسعة في منصات التواصل الاجتماعي، ولم تقتصر هذه الإدانات على الأوساط السياسية والناشطين، بل تعدتها إلى حملات إدانة واسعة من مواطني المناطق الأكثر تضررًا من هذه الانتهاكات وحملات التضامن من بقية السودانيين من خلفهم.
صاحبت عمليات توثيق الانتهاكات من التنظيمات المجتمعية والفاعلين على منصات التواصل أيضًا رصد لمناطق الاشتباكات المحتدمة، وقدم هذا التوثيق والرصد دليلًا ساعد السكان الهاربين من نير المعارك إلى خارج العاصمة أو مناطق الاشتباك في المدن السودانية المختلفة، كما مكن أيضًا النمط المتكرر لتلك المعارك والتوثيق المستمر لها – مكن مواطني المدينة الذين اختاروا ملازمتها من رسم مسارات آمنة تجنبهم المناطق الساخنة في تحركاتهم إلى العمل أو لجلب المواد الغذائية والأدوية وتوزيعها، حتى أن بعض من اختار الخروج من المدن المتأثرة تمكن من العودة وأخذ الوثائق والمقتنيات المختلفة التي تركوها خلال مغادرتهم السريعة للمناطق الأكثر تأثرًا بنيران المعارك والمداهمات التي صاحبت الانتهاكات.
استفاد المتضررون من نيران المعارك أيضًا من منصات التواصل الاجتماعي في تنسيق عمليات النزوح الجماعي وذلك بالتنسيق مع سائقي مركبات النقل العام والباصات السفرية وتحديد نقاط تجمع آمنة للركاب تتجه منها المركبات نحو المناطق الخالية من النزاعات داخل العاصمة الخرطوم والمدن المتضررة الأخرى أو إلى خارجها أو حتى خارج البلاد نحو كل من مصر وإثيوبيا وجنوب السودان، كما بذلت مجهودات مماثلة من قبل الجاليات الأجنبية المختلفة وسفاراتها لترحيل رعاياها إلى خارج مناطق الاشتباك والسودان من بعد ذلك.
شملت عمليات التنسيق عبر هذه المنصات أيضًا الجهود المجتمعية لإسعاف الحالات الحرجة وتغطية الحاجات الإنسانية المختلفة للشرائح الضعيفة في المجتمع. وشمل ذلك جهود إيصال الأدوية لذوي الأمراض المزمنة، وإيصال المواد الغذائية إلى الأسر المحتاجة، وتموين المناطق التي انقطع عنها الإمداد الغذائي نتيجة احتدام المعارك. وتطور هذا الأمر إلى تشكيل لجان وغرف طوارئ في أحياء المدن المتضررة المختلفة لتنسيق الجهود الإنسانية وجمع التبرعات من الخيرين وأبناء هذه الأحياء من المغتربين، ومن ثم شراء الحاجات من أدوية ومواد غذائية وتوزيعها على المحتاجين داخل الحي، وحتى وصل الأمر إلى ابتدار مطابخ مركزية في الأحياء التي ينتمي سكانها إلى الشرائح الأضعف في المجتمع؛ ما سهل التنسيق بين هذه الغرف واللجان والمنظمات المحلية والأجنبية المشتغلة في المجال الإنساني.
وعلى سلبيات منصات التواصل الاجتماعي من تعرض لفيض من المعلومات المضللة والإشاعات وخطابات الكراهية والتحشيد بالغة الضرر لا سيما في الأوضاع الإنسانية الهشة كالحروب، إلا أنها شكلت أحد أهم المنافذ التي مكنت المجتمعات المتضررة من الحرب من مواجهة آثارها المدمرة والأوضاع الإنسانية المصاحبة لها، وتجنب فظائعها، ففي نهاية الأمر تظل تلك المنصات أدوات يحدد مستخدمها طريقة الاستفادة منها.
