قال المراسل الحربي روبرت فيسك إن "الحرب لا تتعلق في المقام الأول بالنصر أو الهزيمة، بل تتعلق بالموت وإيقاعه"، والموت هو عنوان الجندي الذي يقاتل في حرب السودان سواء في الجيش أو إلى جانب قوات الدعم السريع.
كانت الأيام الأولى للحرب سيما في العاصمة الخرطوم حافلة بالأحداث التي كانت تنتشر على الشبكات الاجتماعية ثم تراجعت مؤخرًا مع انحسار خدمات الاتصالات
من أمام ساحة خلفية في قاعدة عسكرية تابعة للجيش شمال العاصمة السودانية، تحدث الجندي "م.ع" مع عائلته التي تقيم شرق البلاد عبر الهاتف الذي كان بالكاد يلتقط إشارة شبكة الاتصالات، وذلك قبل أيام قليلة من وفاته متأثرًا بالإصابة بقاذفة صاروخية سقطت قرب القاعدة العسكرية.
نُقل نبأ استشهاده إلى عائلته في غضون يومين، وقبل ذلك كانت أسرته الصغيرة على موعد مع عودة الجندي الذي عمل في صفوف الجيش أكثر من عشرة أعوام، ولكن خبر صغير "توفي (م.ع) صاحب الـ(47) عامًا تاركًا عائلته الكبيرة والصغيرة، حيث دخلت حياتهم في مسار جديد بدأ بالحزن واستعادة الذكريات".
في المنصات الاجتماعية التي تبث أخبار المعارك العسكرية بين الجيش والدعم السريع، انتشر مقطع فيديو لجندي من الجيش يعانق أفراد عائلته حينما مرت الفرقة العسكرية التي يعمل فيها قرب شارع المنزل، وكان المواطنون يصطفون تحية للجنود؛ في حرب السودان عادة لا يجد المدنيون حساسية تذكر في الاقتراب من أفراد الجيش عكس قوات الدعم السريع، حيث يخشى المدنيون من ردة فعلها التي قد تكون إيجابية أثناء حركة الهواتف النقالة التي بحوزة المقاتلين أنفسهم في دعاية حربية تستند عليها هذه القوات، بينما ردة الفعل قد تكون سلبية ما وراء الكاميرا.
كانت الأيام الأولى للحرب سيما في العاصمة الخرطوم حافلة بالأحداث التي كانت تنتشر على الشبكات الاجتماعية، ثم تراجعت مؤخرًا مع انحسار خدمات الاتصالات وبالطبع الإنترنت وخدمة الكهرباء في العديد من أحياء العاصمة التي شهدت المعارك الحربية.
في حي الحماداب جنوب العاصمة الخرطوم حيث بقي آلاف السكان محاصرين تحت نيران الحرب لشهور طويلة، في غرفة صغيرة يقطن شخصان عاشا رعبًا أثناء معارك قاعدة المدرعات بين الجيش والدعم السريع.
كانت الخطوط الحمراء والصفراء تغطي سماء المنطقة ليلًا عندما تشتد المعارك بينما نفذت قوات الدعم السريع نحو (50) موجة عسكرية خلال أسبوعين من القتال. يقول شرف الدين إن "الحرب بمعناها الحقيقي كانت هنا، وتحولت المنطقة إلى كوكب مظلم غير متصل بالعالم الخارجي؛ هذا الإحساس اختبرناه بالكامل".
عندما يحاولون مشاهدة الوضع من وراء النافذة يقابلهم ركام بعض المنازل والمباني العالية والزجاج المتناثر جراء الأصوات العالية للمدافع والتي تهز أرجاء المنطقة - يضيف شرف الدين.
ويقول: "الموت قريب منك، وعندما تسمع أصوات المدافع تحاول أن تتقبل فكرة الرحيل من الحياة. لقد غادرت الحي إلى جنوب العاصمة سيرًا على الأقدام وأنا أنوي السفر خارج البلاد، واليوم وصلت إلى دولة أفريقية".
هل ستعود؟ سؤال كانت إجابته من شرف الدين الذي يعمل في سلك المحاماة: "نعم"، ثم يتساءل ضاحكًا: "ماذا أفعل في ملجأي إن لم أعد؟!".
قال أحد من شاهدوا المعارك الحربية عند أسفل كوبري المك نمر في الأسبوع الأول للحرب، إن الجثث كانت متناثرة في الأرجاء. سألته إن وجدت طريقها إلى المقابر كوداع يليق بجندي آمن بعمله الذي يعرضه لفقدان الحياة. وحتى الآن لا يمكن العثور على الأجوبة: هل حصل الجنود على دفن يليق بهم؟ وهنا لا بد للإشارة إلى أن الجنود من الطرفين يستحقون وداعًا نبيلًا أو دفنًا يليق بحيواتهم ومشاعر عائلاتهم.
في الأسابيع الأولى للحرب أيضًا، لم تجد المنظمات الوطنية والدولية ومن بينها الهلال الأحمر طرقًا آمنة للوصول إلى الجثث في السوق العربي، هذا ما حدثني به أحد العاملين ضمن فرق المنظمة، وقد كان يائسًا إلى حد كبير، والآن ترجل من موقعه؛ ترى هل شعر بالغبن؟
حملت حرب السودان "إيقاعًا سريعًا للموت" بين الجنود والمدنيين، ويمكن الذهاب بالتقديرات إلى أن من فقدوا الأرواح في صفوف الجنود من الجانبين لا يقل عددهم عن (30) ألفًا، وبين صفوف المدنيين لا يقل الرقم عن (15) ألفًا.