من المحتمل أن تحرز المفاوضات بين الجيش والدعم السريع في جدة بالسعودية تقدمًا في هذه الجولة، قياسًا بالجولة السابقة التي انتهت في تموز/يوليو الماضي بإحراز تقدم أيضًا في بعض البنود فيما تزال نقاط أخرى عالقة بسبب الخلافات بين الطرفين.
يعلم السودانيون أن توقف الحرب يعني العودة إلى الديار وأن الحرب لن تتوقف إلى الأبد إلا إذا عرفوا ماذا يريدون
هناك شواهد على حدوث اختراق في المفاوضات بين الجيش والدعم السريع في جدة، أبرزها سياج السرية المفروض من الوساطة الأمريكية السعودية على مقر المفاوضات، ومنع التصريحات الإعلامية عن الطرفين إلى جانب خطة إعلامية وضعت بعناية لنشر البيانات الصحفية للرأي العام.
ومن بين الشواهد أيضًا تركيز قوات الدعم السريع على مناطق دارفور لاتخاذها "معاقل خلفية" حال حدوث تطورات في العاصمة الخرطوم، إذ أن الضمانات بإخلاء الدعم السريع للحاميات العسكرية في إقليم دارفور، خاصةً في نيالا، غير متوافرة في حال حدث اتفاق في جدة. وفي الوقت نفسه ربما تحاول قوات الدعم السريع فرض سياسة الأمر الواقع بوضع اليد على مواقع عسكرية مستبقًا اتفاقًا مرتقبًا في جدة.
بالطبع لن يقف الجيش مكتوف اليدين. وفي هذا الصدد، فإن وضعه على الأرض أفضل، وهو متحصن بمقاره العسكرية في العاصمة الخرطوم ونحو (16) ولاية سودانية، قد ترجح كفته على طاولة المفاوضات في منبر جدة. ويراهن الجيش في ذلك على ضغوط دولية ستلقى على عاتق الدعم السريع لمغادرة المرافق المدنية، ومن بينها المنازل والأسواق والمستشفيات والمرافق الحكومية المدنية، في حين سيبقى الجيش في مواقعه العسكرية.
وهنا يُطرح سؤال ملح: أين ستذهب قوات الدعم السريع بعد إخلاء المرافق المدنية والشوارع والأسواق والمرافق الحكومية المدنية؟
هناك عدة سيناريوهات، فإما أن تعود قوات الدعم السريع إلى معسكراتها قبل الحرب، وهي نحو (15) معسكرًا في العاصمة الخرطوم ومحيطها و(17) ولاية سودانية أخرى تنتشر فيها الدعم السريع أيضًا منذ أكثر من أربع سنوات، أو أن تبقى الأوضاع على ما هي عليه، باحتفاظ كل قوة عسكرية بمناطق سيطرتها، وهو السيناريو الذي قد ينعكس سلبًا على أحوال المدنيين، بما في ذلك عرقلة انتشار قوات الحماية الدولية، إن مضى الوسطاء إلى هذا الخيار.
ويعلم الوسطاء في الوقت نفسه احتمال تأخر تنفيذ الترتيبات الأمنية التي تفضي إلى جيش واحد عقب الحرب، بالنظر إلى نماذج حول السودان في إثيوبيا وجنوب السودان واجهت مشكلة تعدد الجيوش والمليشيات وما تزال تعاني من اضطرابات.
ويبقى الحفاظ على الوضع الأمني تحت سيطرة المدنيين من الرهانات التي قد لا يضعها المسؤولون الغربيون الداعمون لوقف الحرب في السودان "في أذهانهم" لتراجع الثقة تجاه المدنيين إلى جانب إظهار القتال مدى ضعف الشق المدني وعدم اصطفافه خلف خطاب موحد.
وُضعت قوات الدعم السريع في السودان تحت "عناية المخلوع"، فهذه القوات أنشئت في الأساس لحماية نظام البشير من المعارضين المسلحين في إقليم دارفور، ثم تحول قادتها لاحقًا إلى رفع شعارات التهميش ومطالب قسمة السلطة والثروة.
ولذلك يتكئ قادة الدعم السريع على "رؤية سياسية" تطرحها بين الحين والآخر، وستستمر خلال الفترة المقبلة في طرح خطاب بضرورة الحفاظ على وحدة البلاد من خلال إعادة تقسيم السلطة والثروة والنفوذ العسكري أيضًا.
لا يملك المدنيون المناهضون للحرب أو من جلسوا على الرصيف "وصفات جاهزة" لمشكلة الحرب في السودان غير المضي إلى إيقافها، ثم التفكر في الأمر تفاديًا لانقسام هذا البلد الذي قد يكون أقرب إلى التفتت.
ومن الصعب الإجابة نيابةً عن المجتمعين الإقليمي والدولي عما إذا كانت لديهما رغبة في دمج قوات الدعم السريع في الجيش السوداني، بالنظر إلى نشاطها العابر للحدود وعملها في منع تسلل المهاجرين إلى أوروبا.
يعلم السودانيون أن توقف الحرب يعني عودتهم إلى ديارهم التي تركوها مكرهين قسريًا تحت وابل النيران قبل سبعة أشهر، ويعلمون أيضًا أن الحلول القوية لم تطرح بعد في أروقة الفاعلين السياسيين والعسكريين لمفارقة الحرب إلى الأبد.
عندما يُسأل أي فاعل سياسي في السودان عن مصير قوات الدعم السريع، يرد سريعًا: "الدمج في الجيش"، لكنه لن يمنحك أي تصور عن أدوات تحقيق هذا المشروع السياسي العسكري، ولن يجيبك عما إذا كان لدى قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) الاستعداد للتخلي عن قواته التي توفر له المكانة الاجتماعية والنفوذ السياسي والعسكري بهذه السهولة.
قال أمجد فريد وهو فاعل وسط القوى المدنية السودانية وموظف سابق في إدارة حمدوك بمجلس الوزراء: "علينا أن نشتري المستقبل، ونسمح لحميدتي وشقيقه بمغادرة السودان مقابل إسقاط جميع الجرائم.. إذا ذهبوا يمكن التعامل مع الأزمة بسهولة".
في مقالات نشرها الكاتب الصحفي وأستاذ التاريخ في الجامعات الأمريكية البروفيسور عبدالله علي إبراهيم بالتزامن مع اعتصام القيادة العامة، قال إن الدعم السريع تمظهر من "صدأ الريف" – أي غياب التنمية والخدمات الأساسية وتوظيف الشبان والفتيات في بعض المناطق، ولا سيما في أطراف السودان وتلك المناطق التي عانت من الحروب الداخلية إبان عهد نظام "الإنقاذ".
ولعل تعريف إبراهيم هو الأقدر على شرح خلفيات الدعم السريع، لكن إبراهيم نفسه يقف اليوم – بعد اندلاع حرب منتصف نيسان/أبريل– بين أنصار "القضاء على هذه القوات عسكريًا"، ومبرره في ذلك أن الجيش هو عماد الدولة.
وخلال المفاوضات بين الجيش والدعم السريع لابد من اصطحاب أن هناك حركات مسلحة ما تزال تقاتل في بعض مناطق السودان، خاصةً حركتي عبدالعزيز الحلو وعبدالواحد محمد نور.
وإزاء ظاهرتي "تعدد الجيوش" و"ملشنة القبائل" في السودان، لم يطرح بجدية أي مشروع وطني عميق لبناء جيش واحد يحمي الدستور والحكم المدني، ولا الاتفاق على طريقة إدارة الدولة.. جميعها مشاريع مؤجلة ولا يُعرف متى ستوضع على طاولة السياسيين السودانيين.
ومن جانبه، يرى الفاعل بين قوى الحراك المدني محمد فيصل أن "الأزمة السودانية معقدة، لكنها ليست مستحيلة إذا تحرك الناس إلى الأمام". ويضيف: "ينبغي لنا أن نقدم تنازلات هنا وهناك لمعالجة مظالم تاريخية". "الأمر أشبه بإعادة تشغيل لوحة الحاسوب" – أردف فيصل.