تضعنا المعارك العنيفة الدائرة الآن بين الجيش السوداني والدعم السريع في العاصمة الخرطوم، أمام سؤال حاد ومقلق يتعلق بطبيعة الحرب الدائرة في السودان، فالخرطوم العاصمة عادت مرة أخرى لتصبح المركز الرئيس للصراع، فما يحدث خارجها لا يحقق النصر الشامل والكاسح لأي من القوتين المتحاربتين.
الجهتان المتصارعتان بالسودان ترميان بكل ثقلهما الحربي في المعركة الأخيرة الحاسمة والقاضية، ومن ينتصر فيها سيحسم تلقائيًا نتائج كل المعارك الأخرى
عقب سقوط الفرقة (16) التابعة للجيش بنيالا وسقوط المدينة بأكملها –من بعد– بأيدي الدعم السريع، سارع الكثيرون إلى القول إن الحرب في سبيلها إلى الانتهاء، لا سيما بعد التداعي السريع لبقية المناطق العسكرية المنتشرة في ولايات دارفور، فحاميات "زالنجي" و"الجنينة" و"كاس"، وقبلها "أم دافوق"، ومناطق أخرى في الإقليم الشاسع جميعها صارت تحت سيطرة الدعم السريع، مما يشير إلى فرضية انتقال "متتالية السقوط" إلى إقليم كردفان المتاخم لدارفور، ووضع مدينة الأبيض الإستراتيجية عسكريًا على قمة هذه الاحتمالات، فالمدينة محاصرة منذ أشهر وبها أحد أهم المطارات العسكرية، وسقوطها صار وشيكًا، لكن ما حدث عكس ذلك تمامًا، إذ انتقلت أو بالأحرى عادت حدة المعارك فجأةً إلى العاصمة الخرطوم، وتوج ذلك التحول التركيزي بضرب أحد أهم الجسور الرابطة بين أجزاء العاصمة "المسلحة" وتحييده.
ما هي الأهمية الكبرى التي يمثلها جسر "شمبات" للدعم السريع، بعد استيلائها على مدينة نيالا وأجزاء واسعة من إقليم دارفور تمتد إلى الحدود مع الجارة تشاد التي يرجح انحياز حكومتها إلى محاربي الدعم السريع، بل بات في حكم المؤكد، فإمداد هذه القوات العسكري واللوجستي وعلى مدار هذه الأشهر العديدة منذ اندلاع الحرب العنيفة لا يمكن أن يصل إليها إلا في ظل مساندة إقليمية تتيح مرونة الحركة برًا وجوًا، وهو ما نجد تفسيره فيما يشاع عن قاعدة "أم جرس" التشادية التي خُصصت –فيما يبدو– لإنجاز هذه المهام اللوجستية الحرجة. إذن، الطريق مفتوحة غربًا وإلى تشاد، والمدن والحاميات تساقطت، وصار الجزء الأكبر من السودان جغرافيًا تحت سيطرة الدعم السريع، نظريًا أو واقعيًا؛ نعم يدور حديث عن الدور الخطير الذي يمكن أن يضطلع به طيران الجيش في خلخلة هذه القوات وإضعافها، وجعل هذا الوضع رهن الغارات المباغتة والمزعزعة باستمرار لصمود هذه القوات! لكن بقراءة أخرى موازية، سنجد أن طيران الجيش –رغم خطورته– فشل طوال أشهر الحرب الماضية في إلحاق الهزيمة بالدعم السريع أو على الأقل تشتيت قواتها المتدافعة في كل يوم في كل اتجاه، فهل بإمكاننا القول إن الحرب انتهت عمليًا عند تخوم دارفور، وأن ما يجري بعدها لا يمكننا قراءاته إلا في إطار إستراتيجيات التفاوض؟ أم الأمر دون ذلك ومفتاح قراءته الصحيحة يكمن في ضرب جسر "شمبات"!
أنكر الجيش السوداني علاقته بضرب جسر "شمبات"، متهمًا الدعم السريع بذلك، وهو الموقف نفسه الذي اتخذته قوات الدعم السريع، بإدانتها ضرب الجسر وتوجيه الاتهام إلى الجيش.
من المستفيد من ضرب جسر "شمبات"؟ ومن الذي كان مستفيدًا من وجود الجسر –خلال المعارك– قبل تعرضه للضرب والتخريب؟ تكمن الإجابة في استعادتنا لأحوال الحرب منذ بداية انطلاقتها قبل سبعة أشهر وإلى هذه اللحظة التي تدور فيها المعارك العنيفة والدامية في جنوب الخرطوم (منطقة جبل أولياء تحديدًا)، وفي أجزاء واسعة من مدينة أم درمان القديمة وامتدادات المدينة الجديدة المختلفة، أي في المدار الأولي لانطلاقة الحرب، متجاوزًا كل المسارات الأخرى التي تشير جغرافيًا إلى الغرب.
لنعد إلى مدى أهمية جسر "شمبات" ما قبل الضربة وما بعدها. فإذا بدأنا بحالة ما قبل الضربة، سنجد أن الجسر ومنذ الأيام الأولى للحرب صار خارج نطاق سيطرة الجيش، إذ استحوذت عليه من جهتيه (بحري وأم درمان) قوات الدعم السريع التي نجحت منذ اشتعال الشرارة الأولى للحرب في السيطرة الكاملة على أجزاء واسعة من منطقتي بحري وشرق النيل، وصارت هذه المنطقة بامتدادها الجغرافي المتسع الموقع الرئيس لتمركز هذه القوات. كما نجد أن هذه القوات ومنذ اليوم للحرب استطاعت أن تستحوذ على منطقة أم درمان القديمة (الإذاعة والأحياء السكنية التاريخية في أم درمان)، وهي المنطقة المتاخمة لجسر "شمبات" من جهة أم درمان. إذن الجسر وطوال هذه الأشهر كان تحت أيدي الدعم السريع، وكان منفذها الوحيد بين المدينتين (أم درمان وبحري)، ما يعني أيضًا أنه المنفذ والطريق الأول والأسلم لهذه القوات من أرض المعارك بالخرطوم إلى الغرب (دارفور وكردفان)، وما يعنيه ذلك من إسناد بشري (مليشي)، من هناك ومن تشاد (أم جرس)، وما يعنيه ذلك من دعم لوجستي وعسكري. هل تمثل سلامة الجسر أي أهمية (حربية) للجيش؟ لنترك الإجابة وننظر إلى المستفيد من ضرب الجسر وتحطيمه، أي ما بعد الضربة، وسنكتشف بسهولة أن الجيش هو المستفيد الأوحد، لأنه وببساطة شديدة سيحقق في حالة غياب الجسر انتصارًا نوعيًا بعزل قوات الدعم السريع (الكبيرة) المنتشرة في منطقة بحري عن قواتها الأخرى (النوعية) المنتشرة في أم درمان (القديمة والحديثة)، والأهم من ذلك قطع الطريق أمام هذه القوات وعزلها عن معينها اللوجستي غربًا في "أم جرس" البعيدة. لست معنيًا هنا بتحديد المسؤولية عن ضرب الجسر، بقدر ما أرمي إلى توضيح أن المعركة عادت من حيث بدأت، إلى الخرطوم، فهل نجد في ذلك تفسيرًا لنهاية الحرب المحتملة خارج غرف التفاوض المغلقة في جدة؟
ما بعد سقوط مدينة نيالا –الفرقة (16) مشاة– وضرب جسر "شمبات"، وما بينهما من حريق كبير، تصل الحرب في السودان إلى أوج احتدامها، وتصل نيرانها إلى ذروة حريقها الجهنمي المهلك، وتقترب النهاية رويدًا رويدًا. فالجهتان المتصارعتان ترميان الآن بكل ثقلهما الحربي في ما يمكن أن نصفه بالمعركة الأخيرة الحاسمة والقاضية، ومن ينتصر فيها سيحسم تلقائيًا نتائج كل المعارك الأخرى الموازية، ذات النصر الكبير، أو الهزيمة الأكبر.
بدأت الحرب في الخرطوم وتشهد الخرطوم الآن نهايتها الكبرى والمدمرة.