27-أغسطس-2024
البرهان - حميدتي - جدة

أثارت المواقف المتعارضة حول منبر سويسرا ردود أفعال متباينة في ظل استمساك القوات المسلحة برفضها لمجرد الانضمام لمحادثات السلام هناك، دون النظر في مدى التزام أطراف الصراع السوداني بنتائج ما وقعوا عليه في منبر جدة، وتحديدًا بخصوص الخروج من منازل المواطنين واسترداد الأعيان المدنية لحمأة الدولة. وألمح المبعوث الأميركي توم بيرييلو، في مقابلة إعلامية للجزيرة مباشر، إلى تأثير فاعل خفي وقوى سلبية على قرار القوات المسلحة بالذهاب في ركب السلام بغرض استعادة مجدها السلطوي، مع تأكيده على أهمية القوات المسلحة وتاريخها المؤسسي الذي هو محل احترام قطاع كبير من الشعب السوداني بأكثر من النخب السياسية والقوى الحزبية. وتحت إلحاح المذيع أحمد طه، أوضح بيرييلو أن القوى المقصودة هي عناصر النظام السابق وبعض أمراء الحرب الذين ينتفعون من ريع الأزمات، في تبنٍ صاعق لسردية الدعم السريع ورؤيتها وروايتها حول من أطلق الرصاصة الأولى، لا حول ما الذي أشعل الحرب والانتقال من معالجة السؤال في مستوى الكيفية (كيف؟) لا مستوى الغائية (لماذا؟).

نستعرض بالحفر معمقًا في بنية الأحداث، تحديدًا منذ استيلاء الإسلاميين على نظام الحكم في الثلاثين من حزيران/يونيو 1989م، واتجاههم منذ أيامهم الأولى إلى عقد سلام يخرس صوت المدافع في أحراش الجنوب ويستنبت السلم في أرجائه وأجوائه

وبالنظر إلى ما أحدثه موقف الجيش من الانخراط مجددًا في مشروعات التسوية عبر المنابر الإقليمية والدولية، ما بين مستغرب ومستنكر ومؤيد، نفتح سياق البحث والاستقصاء "الجينالوجي" من جديد لاكتناه أبعاد القرار وملابساته المفهومية والإدراكية، وما استثاره من خبرة ممتدة حول تجارب السلام في السودان. ونستعرض بالحفر معمقًا في بنية الأحداث، تحديدًا منذ استيلاء الإسلاميين على نظام الحكم في الثلاثين من حزيران/يونيو 1989م، واتجاههم منذ أيامهم الأولى إلى عقد سلام يخرس صوت المدافع في أحراش الجنوب ويستنبت السلم في أرجائه وأجوائه. يقول جمال الشريف، المختص باستراتيجيات الصراع الدولي: "إن هناك حساسية كبيرة لدى الحكومات السودانية من أدوار الوسطاء تصاعدت خلال عقود منذ اشتعال "التمرد" في جنوب السودان في الستينات وحتى تسويته في العام 2005م، ثم اشتعال الأحداث في دارفور منذ 2003 والتي انتهت بعد عدد من الاتفاقات في أبشي وأبوجا والدوحة وتوقيع اتفاقية جوبا للسلام في 2021م، وأخيرًا، "تمرد" قوات الدعم السريع في أبريل 2023م، وهو ما يجري التفاوض بشأنه في جنيف حاليًا".

أشكال الوساطات وإشكالياتها

يصنّف محمد الواثق أبو زيد، أمين العلاقات الخارجية بحزب المستقبل، الوسطاء في الشأن السوداني إلى:

  1. شخصيات اعتبارية مثل أبو سانجو وأمبيكي.
  2. دول منفردة.
  3. دول مجتمعة (الترويكا).
  4. المنظمات (الإيقاد/الاتحاد الأفريقي..إلخ).

ويرى الواثق أن أفضل الوساطات وأقربها للحياد والموضوعية هي الوساطة النيجيرية (أبوجا) التي استضافت مفاوضات جنوب السودان في حقبة التسعينات الباكرة، واستطاعت أن تحرز تقدمًا في ملف دارفور التي وقعها مجذوب الخليفة ومني أركو مناوي. ثمة وساطات أخرى أحرزت اختراقًا في ملفات الصراع السوداني، كما حدث من إريتريا في موضوع شرق السودان، وتمخض عنه مشاركة حركة البجا في السلطة حتى سقوط الإنقاذ.

ويرى الواثق أن أهم وساطة تمت في فترة الإنقاذ هي ما أسندت لمنظمة الإيقاد، ذات الاعتناء بقضايا البيئة والمناخ ومكافحة الجفاف والتصحر، وتحولها لمناقشة الشأن السياسي بطلب من السودان. غير أن أسوأ ما حدث بخصوصها هو الاختراق الذي تم من أصدقاء الإيقاد عبر الدعم المالي والفني، وما مررته من أجندة تفاوضية ورهانات سياسية متجاوزة لأطراف النزاع أو قل منحازة لطرف دون طرف في أفضل تقدير. وبالنظر إلى ما جرى، يتأكد أن الإيقاد عبر شركائها أدخلت بنودًا لصالحها وفرضت أجندة معينة أدت في الختام إلى إنفاذ ما سمي باتفاقية السلام الشامل.

ويقرر الواثق أن تدخل المبعوثين الدوليين من الولايات المتحدة أو المملكة المتحدة أو الاتحاد الأوروبي يغلب عليها ترجيح الرؤى والمصالح الغربية على أجندة أطراف القضية الوطنية، كما حدث طوال مسيرة حكم الإنقاذ، وكما حدث مؤخرًا في الحرب الحالية في سياق مفاوضات سويسرا التي تدخلت فيها الولايات المتحدة لتفرض الإمارات العربية المتحدة كشريك، وهي قضية يرى الواثق أنها مرتبطة بشكل أساسي بالتمويل، كما حدث في منبر جدة الذي مُوِّل بكامله من المملكة العربية السعودية، في إطار انفراد الولايات المتحدة بالجهود السياسية والدبلوماسية وفرض الأجندة عبر أدوات الإغراء والإرغام.

ويعتقد الواثق أن أدوار المنظمات الإقليمية أصابها التراجع كالاتحاد الإفريقي والجامعة العربية والإيقاد، لرهن قرارها للممولين والمزاوجة بين التأثير السياسي والدعم الفني وجلب التمويل.

أبعاد إدراكية

من جانبه، يشير جمال الشريف إلى بُعد إدراكي في موقف الجيش ربما تشكّل من تجربة السودان الطويلة مع المفاوضات والوسطاء، الأمر الذي ألقى بظلاله على الموقف الراهن من مفاوضات سويسرا سواء كان هذا التأثير مباشرًا أو غير ذلك. يقول جمال: "وطالما أن هناك من يفسر الرفض الحكومي بتأثير جهات سياسية داخلية، فمن المبرر والمنطقي أيضًا أن نتساءل عما إذا كان الوسطاء أيضًا واقعين تحت نفوذ وضغوط مصالح سياسية أم لا؟!"، ملمحًا إلى أن مفهوم الوساطة نفسه قد تطور على أرض الواقع في مختلف أنحاء العالم، متجاوزًا الدور التقليدي الذي يتم من خلاله عادة تقديم التسهيلات لأطراف التفاوض، إلى المشاركة في وضع الأجندة أو وضع إطار التفاوض نفسه. ويستدل جمال على ذلك بمفاوضات غزة، التي يتجاوز دور الوسيط فيها وظيفته التقليدية، وذلك بعد أن قامت الولايات المتحدة بوضع مقترح للتسوية على الطاولة بين الطرفين، وهددت الأطراف المتفاوضة بالالتزام به، كما حصلت على دعم الأمم المتحدة للمقترح لتفادي ما حدث من تعثر في خضم سير المحادثات. يعتقد جمال بأن تأثير الوسطاء من جهة وضع الأجندة وحمل الأطراف إليها أمر وارد الحدوث ومعمول به على نطاق الساحة الدولية.

في البدء كانت الخديعة

يقر جمال بأن المعلومات والبيانات ليست كافية في سياق اتهام وسطاء سويسرا، إلا أن المقارنة والتقييم بناءً على تجارب السلام السابقة في السودان يمكن أن تقدّم ملمحًا لطبيعة الدور والرهانات للوساطة الحالية. ويؤكد جمال أن موجة الوساطات السابقة أظهرت انحيازًا واضحًا، وسعت لتمرير أجندات سياسية لمصالح محددة. أولى هذه التجارب، حسب جمال، كانت في عام 1990 عندما تدخل رجل الأعمال البريطاني تيني رولاند، المالك السابق لصحيفة (الأوبزيرفر  The Observer) وصاحب الاستثمارات الضخمة في أفريقيا، للتوسط بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان. هدف الوساطة كان إطلاق سراح أوروبيين من جنوب أفريقيا تم القبض عليهما في الخرطوم وصدر بحقهما حكم بالإعدام في عام 1985، للاشتباه في تورطهما في عملية تهريب اليهود الفلاشا. وكانت الصفقة تقضي بإطلاق سراحهما مقابل لقاء في نيروبي بين الرئيس السوداني البشير والدكتور جون قرنق، رئيس الحركة الشعبية. وفي حزيران/يونيو 1990، أطلق السودان سراح المعتقلين، وفي أيلول/سبتمبر من نفس العام، غادر البشير إلى نيروبي لمقابلة قرنق لبدء المحادثات، إلا أن قرنق لم يحضر، مما أدى إلى فشل الوساطة في مهدها.

خبير: بعد التوقيع على الاتفاق وتشكيل الحكومة الجديدة بالشراكة مع الحركة الشعبية، غادر وزير الخارجية السوداني الدكتور لام أكول لمناقشة الوعود الأميركية، إلا أنه أُبلغ أن الولايات المتحدة لا يمكنها الوفاء بتعهداتها السابقة نتيجة للحرب في دارفور

يقول جمال: "لاحقًا، وبعد سنتين، انكشفت حقيقة وساطة تيني رولاند بعد أن نشرت مجلة "الوسط" اللبنانية بتاريخ 21 حزيران/يونيو 1993 تقريرًا مفصلًا بعنوان: "شامير طلب ورولاند توسط والخرطوم نفذت!"، كشفت فيه كيف أفرجت الخرطوم عن عميلين إسرائيليين شاركا في تهريب الفلاشا. وكشف التقرير أن المعتقلين كانا ضابطين في الموساد، وأن إسرائيل كانت تخطط لإنقاذهما عبر عملية عسكرية على غرار عملية عنتيبي، لكنها استبدلت الفكرة بوساطة تيني رولاند. وأوضحت المجلة: "عندما وصل رولاند إلى تل أبيب وجد أن الإسرائيليين يعلقون أهمية كبرى على المهمة المكلف بها، بدليل أن رئيس الحكومة الإسرائيلية إسحاق شامير استقبله في اليوم التالي ووضعه في صورة العملية المطلوبة، مشددًا على ضرورة إنقاذ حياة شخصين ساعدا آلاف اليهود الإثيوبيين على الهجرة إلى إسرائيل عن طريق السودان". وبعد نجاح رولاند في مهمته، كان السؤال الوحيد الذي وجه له هو كيف نجح في إقناع الرئيس السوداني البشير بإطلاق السجينين. ووفقًا للمجلة، لم يرد رولاند على السؤال واكتفى بابتسامة قائلًا: "أفضل عدم الرد على ذلك، فالرئيس عمر البشير يعرف مدى حرصي على استمرار التفاوض بين الحكم في الخرطوم والمتمردين في الجنوب، إنه صديق ويعرف أنه بإمكانه الوثوق بي".

وعود زائفة

ويستطرد جمال قائلًا بأسف: "بعد أقل من عشر سنوات، جرت عملية أخرى مشابهة لوساطة تيني رولاند، عندما توسطت الولايات المتحدة في عهد الرئيس الأميركي جورج بوش بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان في عام 2001. وعلى الرغم من الأسباب الأخرى العديدة، الموضوعية والمنطقية، التي دفعت الولايات المتحدة لهذه الوساطة وسعيها لإنجاحها، إلا أنه في النهاية، وبعد التوقيع على اتفاق السلام في 2005، قوضت ثقة السودانيين في جهود الوسطاء".

يقول جمال الشريف: "من المعروف أن أحد أسباب نجاح الوساطة الأميركية وما يعرف بدول أصدقاء الإيقاد هو الوعد الذي قدمته الولايات المتحدة للسودان بصورة مباشرة من خلال اتصالات هاتفية من الرئيس الأميركي جورج بوش إلى الرئيس السوداني البشير، والتي بلغت في جملتها (13) مكالمة هاتفية خلال فترة المفاوضات، فضلًا عن لقاءات وزير الخارجية الأميركي كولن باول بالرئيس السوداني والمسؤولين الآخرين، متعهدين فيها برفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب ورفع العقوبات الاقتصادية المفروضة عليه منذ عام 1997 وتطبيع العلاقات بين البلدين. كان ذلك هو الدافع وراء انخراط السودان بجدية في تلك المفاوضات وتقديم التنازلات الكبيرة".

ولكن بعد التوقيع على الاتفاق وتشكيل الحكومة الجديدة بالشراكة مع الحركة الشعبية، غادر وزير الخارجية السوداني الدكتور لام أكول لمناقشة الوعود الأميركية، إلا أنه أُبلغ أن الولايات المتحدة لا يمكنها الوفاء بتعهداتها السابقة نتيجة للحرب في دارفور، ويجب الوصول إلى اتفاق سلام جديد مع الحركات المسلحة حتى تستطيع الحكومة الأميركية الوفاء بتلك التعهدات. يقول جمال: "مرة أخرى دخلت الحكومة السودانية في مفاوضات جديدة، والتي انتهت بالتوقيع على اتفاق سلام أبوجا في 2007. ولكن على الرغم من ذلك، حنثت الحكومة الأميركية مرة أخرى بوعودها، متعللة هذه المرة بأنه إذا ما تم رفع العقوبات وتطبيع العلاقات، فإن الحكومة السودانية قد تنقض اتفاقات السلام، وبالتالي، وفقًا لتصريح وزير الخارجية الأميركي لنظيره السوداني، فإن هذه العقوبات ستبقى لضمان تنفيذ الاتفاقات".

فرض حق تقرير المصير

يستطرد جمال قائلًا: "إلى جانب هذا النوع من الوساطات التي يمكن وصفها بالاستغلالية، تعرض السودان أيضًا لنوع آخر من الوساطات المنحازة، والتي يمكن أن تصل إلى حد اعتبارها تدخلًا في الشؤون الداخلية للدول. وتعتبر وساطة دول الإيقاد أوضح نموذج لذلك، عندما قدمت في إحدى جولات التفاوض بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية مسودة للتفاوض عُرفت لاحقًا بوثيقة إعلان المبادئ".

وفي أيار/مايو 1994، أعلنت دول الإيقاد مبادرة سلام سميت بإعلان المبادئ، التي تضمنت من بين عدة بنود بندين أثارا الكثير من الجدل والخلاف، وهما:

  • إعطاء حق تقرير المصير للجنوب.
  • الفصل بين الدين والدولة (العلمانية).

اعتبرت الحكومة السودانية إعلان المبادئ، وخاصة حق تقرير المصير، يتعارض مع مقررات منظمة الوحدة الأفريقية التي أكدت على ضرورة الإبقاء على الحدود الموروثة من الاستعمار، وأنها غير مستعدة للتباحث حولها، وألغت مشاركتها في وساطة الإيقاد. وقال رئيس وفد السودان الدكتور غازي صلاح الدين: "إن المهمة التي أوكلت إلينا واضحة ومحددة للغاية، وهي إلغاء إعلان مبادرة الإيقاد التي صاغها الوسطاء، أو إلغاء مبادرة الإيقاد من أساسها".

أثارت وساطة الإيقاد الكثير من الجدل بسبب أطروحاتها للسلام. وضمن المقابلات البحثية لفريق توثيق محادثات السلام، أجرى جمال الشريف حوارًا مع الدكتور عطا الله البشير، وهو سوداني كان يعمل في سكرتارية الإيقاد. أوضح عطا الله أن السفير الإثيوبي في الإيقاد كان من أكثر المتشددين في اجتماعات الإيقاد بضرورة تضمين مبدأ حق تقرير المصير. وفي مقابلة أخرى مع أحد الدبلوماسيين السودانيين ممن تربطهم علاقات جيدة مع السفير الإثيوبي، قال إن السفير أوضح له مازحًا أنهم في إثيوبيا يؤيدون حق تقرير المصير "نكايةً" في السودان الذي وقف مع الثورة الإريترية التي أدت إلى انفصال إريتريا عن إثيوبيا.

جمال الشريف: ازدادت هواجس وشكوك السودان حول الوسطاء، خاصة بعد ما أعلن المبعوث الأميركي للسودان آنذاك، جون دانفورث، في تقريره الذي قدمه إلى الرئيس الأميركي في عام 2002 حول فرص السلام في السودان: 'إنه فيما يتعلق بجنوب السودان، فإنه لا يستحق حق تقرير المصير، وأن كل ما يحتاجه الجنوبيون هو توفير بعض الضمانات للعقائد والثقافات الجنوبية في ظل نظام سوداني موحد'

ومن خلال المعلومات التي توفرت لاحقًا، يشير جمال الشريف إلى تأكد رواية السفير الإثيوبي في الإيقاد. ففي عام 2011، نشرت الصحفية ربيكا هاملتون مقالًا في "رويترز" حول جنوب السودان، كشفت فيه أن تد داقني، وهو أميركي الجنسية وإثيوبي الأصل، وكان يعمل في مركز الأبحاث في الكونغرس، ضمن المجموعة الداعمة للحركة الشعبية في الولايات المتحدة، قد قدم في عام 1993 مشروع قرار للكونغرس الأميركي يقضي بإعطاء جنوب السودان حق تقرير المصير، وتمت إجازة القرار بالإجماع. يقول جمال: "هل تم تمرير قرار الكونغرس الأميركي بإعطاء الجنوب حق تقرير المصير إلى دول الإيقاد، مع الأخذ في الاعتبار إمكانية حدوث ذلك بسهولة التواصل بين السفير الإثيوبي في الإيقاد مع الإثيوبي الأميركي تد داقني، الذي أكد بنفسه في أكثر من مرة أن مقترحه لحق تقرير المصير قد وجد طريقه إلى التنفيذ؟"

الموقف الأميركي.. المناورة والاستدارة

يقول جمال الشريف مسترسلًا: "ازدادت هواجس وشكوك السودان حول الوسطاء، خاصة بعد ما أعلن المبعوث الأميركي للسودان آنذاك، جون دانفورث، في تقريره الذي قدمه إلى الرئيس الأميركي في عام 2002 حول فرص السلام في السودان: 'إنه فيما يتعلق بجنوب السودان، فإنه لا يستحق حق تقرير المصير، وأن كل ما يحتاجه الجنوبيون هو توفير بعض الضمانات للعقائد والثقافات الجنوبية في ظل نظام سوداني موحد'. وقد أكد مساعد وزير الخارجية الأميركي للشؤون الإفريقية، كانستاير، رؤية دانفورث، وقال في جلسة بالكونغرس الأميركي ناقشت آليات تطبيق السلام، إن تطبيق مقترحات دانفورث يعني، بحسب بعض التفسيرات، تجاوز وساطة الإيقاد وكذلك وثيقة إعلان المبادئ بإعطاء الجنوب خيار حق تقرير المصير".

ويرى جمال أن الموقف الأميركي الرافض لحق تقرير المصير لم يكن مجرد مناورة سياسية. ففي اجتماع دول الترويكا الداعمة لحق تقرير المصير، الذي عُقد في نيويورك في أعقاب تصريحات دانفورث، تم النقاش حول كيفية إعادة تنشيط المفاوضات، وكان حق تقرير المصير من بين الموضوعات الرئيسة التي نوقشت. حيث تحفظ عليه مندوب الولايات المتحدة مقابل موافقة بريطانيا والنرويج. وقالت هيلدا جونسون إن ممثل الولايات المتحدة لم يتمكن من الحصول على تعليمات محددة من واشنطن.

أثارت مجموعة الضغط التي تعمل مع الإثيوبي تد داقني، مثل جون برندر غاست وروجر ونتر، عاصفة من الاحتجاجات على الموقف الأميركي الرافض لحق تقرير المصير. قالوا إن تقرير دانفورث قد وضع العربة أمام الحصان وأعطى أحكامًا مسبقة على قضايا دبلوماسية وحساسة مثل رفض حق تقرير المصير، وحاول تمويه المصطلح حتى لا يتضمن الانفصال. قال روجر ونتر: "لقد تأذت إدارة بوش بعمق في مصداقيتها كوسيط بسبب تقرير دانفورث، الذي أسقط عمدًا حق استقلال جنوب السودان، وكانت تلك سياسة العودة إلى الوراء". وقال جون برندر غاست: "المهم في موضوع السلام هو التفاوض حول حق تقرير المصير، وأن الولايات المتحدة أرسلت إشارات متناقضة حول الموضوع، ويبدو أن الوسطاء أنفسهم بدأوا يتراجعون عن دعم حق تقرير المصير".

يشير جمال الشريف إلى أنه بالإضافة إلى الموقف الأميركي، فقد تدخل المصريون على الخط بعد استشعارهم لخطورة حق تقرير المصير، وقدموا مبادرة عُرفت بالمبادرة المصرية الليبية المشتركة عام 2001. كان من بين أهم النقاط التي تضمنتها حذف حق تقرير المصير للجنوب، وكذلك رفض فصل الدين عن الدولة. وقد نُظر إليها باعتبارها موازية للإيقاد وممثلة لوجهة نظر الدول العربية ومحاولة لإبعاد تقرير المصير الوارد في إعلان المبادئ.

بحلول عام 2002، واستجابة لتطورات سياسية كثيرة، وافق السودان على العودة إلى منبر الإيقاد. بعد ذلك، نشرت الوساطة وثيقة لطرفي التفاوض حُذفت فيها الفقرة الخاصة بحق تقرير المصير. وعلاوة على ذلك، ألقى مؤتمر قمة الإيقاد المنعقد في كانون الثاني/يناير 2002 مزيدًا من الشكوك حول حق تقرير المصير عندما طلب رئيس القمة من الرئيس موي أن يبحث عن سبيل لاستيعاب المبادرة الليبية المصرية ضمن عملية الإيقاد، وما إذا كان من الضروري تعديل الإعلان وإلغاء حق تقرير المصير.

انعقدت جولة المفاوضات برعاية الإيقاد في مشاكوس عام 2002، وقدم وسيط الإيقاد الجنرال سمبويا ورقة للتفاوض حول "بلد واحد بنظامين"، وهي الفكرة التي طرحها مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية عام 2001 (One Country, Two Systems). رفضت الحركة الشعبية الورقة واعتبرتها بالغة الخطورة لأنها لم تتطرق إلى حق تقرير المصير، كما اعتبرت أن فكرة "بلد واحد بنظامين" تعني النظام الكونفدرالي، وطالبت بأن يكون نظامًا علمانيًا مع تداول الرئاسة بين الشمال والجنوب.

أعلنت الحركة الشعبية نيتها مغادرة المفاوضات، وكذلك الحكومة السودانية. في تلك اللحظة، تدخل الجنرال سمبويا وطلب من الوفدين إرسال مبعوثين. وضع أمامهما ورقة تضمنت تسوية نصت على إعطاء الجنوب حق تقرير المصير وحق الشمال في تطبيق الشريعة الإسلامية، مع فترة انتقال مدتها ست سنوات يبدأ بعدها الجنوب ممارسة حق تقرير المصير. وقال الجنرال سمبويا إنه وضع الورقة أمام الوفدين بخيارين فقط: إما الموافقة عليها كما هي أو رفضها (Take it or leave it).

دون الخوض في الأسباب، وافق السودان على المقترح وتم التوقيع على بروتوكول مشاكوس، الذي منح الجنوب حق تقرير المصير والشمال حق تطبيق الشريعة الإسلامية.

هنا يطرح جمال الشريف تساؤلًا مهمًا: كيف لحق تقرير المصير الذي تخلى عنه الأميركيون وتجاهلته دول الإيقاد بعد الضغوط المصرية أن يعود مرة أخرى إلى الطاولة؟ وزيرة التعاون الدولي هيلدا جونسون أوضحت في مذكراتها (Waging the Peace) أنهم تلقوا معلومات تفيد بأن الحركة الشعبية كانت على وشك مغادرة المفاوضات بسبب شكوكها حول الإيقاد، التي وزعت وثيقة خالية من حق تقرير المصير، وكذلك قبولها بالمبادرة المصرية إضافة إلى تصريحات دانفورث.

جاء التدخل الحاسم من الوسطاء بضرورة إدراج حق تقرير المصير في المفاوضات، محذرة من انهيارها، على أن يكون تضمين مبدأ حق تقرير المصير بما يعني خيار الاستقلال أو الوحدة الطوعية ضمن عملية التفاوض

جاء التدخل الحاسم من الوسطاء بضرورة إدراج حق تقرير المصير في المفاوضات، محذرة من انهيارها، على أن يكون تضمين مبدأ حق تقرير المصير بما يعني خيار الاستقلال أو الوحدة الطوعية ضمن عملية التفاوض. طلبت هيلدا جونسون من ممثل النرويج مناقشة الأمر مع زملائه في الترويكا ومن ثم الاتصال بالجنرال سمبويا لتغيير مسار التفاوض. بناءً على ذلك، قرر الجنرال سمبويا أن مسألة حق تقرير المصير ينبغي أن تناقش إلى جانب قضيتي الدين والدولة والنظام الفيدرالي. لاحقًا، أعد سمبويا وثيقة تفاوض جديدة تشمل حق تقرير المصير للجنوب والشريعة للشمال، وطلب في العاشرة ليلًا من وفدي الطرفين عدم مغادرة الغرفة إلا بعد اتخاذ القرار إما القبول أو الرفض، وانتهى الأمر بقبول الطرفين للوثيقة فيما عرف باتفاقية مشاكوس.

النقطة المهمة التي يشير إليها جمال الشريف هي أن الاتفاقية كانت مفاجئة للجميع، حتى بالنسبة للوفد السوداني، الذي قال إنهم أثناء استعدادهم لمغادرة المفاوضات قدم لهم سمبويا وثيقة مشاكوس. ويبدو أن سبب المفاجأة للجميع هو أن الوسطاء، بحسب ما ذكرت هيلدا جونسون، كانوا يخشون استبعاد حق تقرير المصير، ولذلك عملوا بسرعة على وضعه في قلب القضايا المطروحة أمام طرفي التفاوض، وإجبارهم على قبولها كلها أو تركها خلال ساعات.

وربما كانت الطريقة التي تم بها تمرير الاتفاق مفاجئة للأميركيين الذين لم يعلموا بها إلا في اليوم التالي. الجنرال سمبويا قال في مذكراته إن السفير الأميركي في نيروبي استدعاه لاستفساره عن الاتفاق، ورد عليه سمبويا بأنه ليس مساءلًا أمامه وإنما أمام دول الإيقاد التي عينته. ولو صحت رواية سمبويا، فإن الطريقة التي تم بها الاتفاق كانت تهدف إلى عدم إطلاع الأميركيين الرافضين لحق تقرير المصير، نتيجة للضغوط المصرية واقتراب حرب العراق التي كانت الولايات المتحدة تتطلع فيها إلى المساعدة المصرية. وأيًا كان الأمر، فإن منح الجنوب حق تقرير المصير وما ترتب عليه لاحقًا يعود بدرجة كبيرة إلى دور الوسطاء وليس طرفي التفاوض.

ما بعد الإنقاذ

ما فتئ السودان يخرج خاسرًا من أي عملية تفاوضية يرعاها وسطاء إقليميون أو دوليون، مما أدى إلى تراكم الشكوك والمشاعر السلبية تجاه الوسطاء. بعد سقوط نظام البشير في 2019 ودخول البلاد في مرحلة سياسية جديدة، طلب رئيس وزراء الحكومة الانتقالية عبدالله حمدوك من الأمم المتحدة إرسال بعثة للمساعدة في عملية التحول الديمقراطي، واختارت المنظمة الأممية فولكر بيرتس ليترأس البعثة الأممية في السودان ويساعد في الانتقال الديمقراطي.

يقول جمال الشريف: "إن الحكومة السودانية اتهمت المبعوث الأممي أكثر من مرة بتجاوز تفويضه وتدخله في الشؤون الداخلية، وهددته بالطرد والمطالبة بإبعاده، الأمر الذي استجابت له الأمم المتحدة بعد نشوب الحرب في الخامس عشر من نيسان/أبريل 2023، لتنهي تكليفه على النحو الذي تم. إلا أن السؤال الرئيسي هو هل تسبب الاتفاق الإطاري الذي وضعه لحل الخلاف بين قوى الحرية والتغيير والحكومة في تفجير الأوضاع في السودان وإدخاله في واحدة من أكثر الحروب وحشية ودموية في التاريخ؟

صحيح أن الأوضاع في السودان انفجرت بسبب الاتفاق الإطاري، لكن يصعب القول أو لا تتوفر الأدلة بأن المبعوث الأممي كان يضمر هذه النتيجة

صحيح أن الأوضاع في السودان انفجرت بسبب الاتفاق الإطاري، لكن يصعب القول أو لا تتوفر الأدلة بأن المبعوث الأممي كان يضمر هذه النتيجة. غير أن التصريحات التي أدلى بها لمجلة "دير شبيغل" الألمانية عقب استقالته تشير إلى أنه كان يعلم ما ستؤول إليه الأوضاع في السودان نتيجة للاتفاق الإطاري.

سئل فولكر عن السبب الرئيسي للحرب في السودان، فقال إن مقترح دمج قوات الدعم السريع في الجيش السوداني سوف يحد من قوة حميدتي، وكان ذلك هو السبب الرئيسي (That integration would have curtailed Hemeti’s power, and that was certainly the main reason for the conflict coming to a head).

وصف فولكر قوات الدعم السريع بالمتمردين (The army and the rebel groups)، وقال إن هيكلتها تعتبر جيشًا خاصًا، وهي مليشيا يقودها آل دقلو. وكان شعور حميدتي بأنه سوف يفقد السيطرة على قواته في مرحلة من مراحل العملية الانتقالية أمرًا مهددًا بالنسبة له، وخاصة وأن قيادة الجيش السوداني تعلم أن وجود جيش مستقل يمثل تهديدًا للجيش القومي الموحد (An independent RSF would undermine the principle of a unified national army).

يبدو واضحًا – كما يقول جمال – أن فولكر كان على علم بأن الاتفاق الإطاري الذي نص على دمج القوات يمثل أمرًا خطيرًا بالنسبة لحميدتي، وهو أمر لن يقبل به. وبذات الدرجة، كان فولكر يعلم أن الجيش السوداني لا يمكن أن يقبل بوجود قوات خارج المنظومة العسكرية الوطنية، وهذا يعني أن التصادم قادم لا محالة. وربما بوحي من هذه التناقضات الحادة، سأل محرر المجلة عن من الذي أطلق الطلقة الأولى. كان رد فولكر مفحمًا حين ألقى باللوم بصورة مبطنة على قوات الدعم السريع، قائلًا إنه لا يعلم من أطلق الطلقة الأولى، لكن كانت قوات الدعم السريع جاهزة وأكثر استعدادًا، حيث استطاعت السيطرة على معظم أنحاء العاصمة في الساعات الأولى. كما أن الرئيس البرهان قد أُخذ على حين غرة، حيث تم الهجوم عليه في منزله، مما أدى إلى مقتل العديد من حراسه (Even army chief Burhan was taken by surprise at his residence; several of his bodyguards were killed in an attack on the site).

مفاوضات سويسرا

يقول جمال الشريف إنه بالنظر إلى هذا التاريخ المليء بالشكوك بالنسبة للدولة السودانية ممثلة في جيشها الوطني، والشعور بالخذلان من الوسطاء، فإنه من المفهوم تعنت قيادة الجيش تجاه دعوة الوسيط الأميركي توم بيرييلو إلى مفاوضات بين الجيش وقوات الدعم السريع في جنيف في آب/أغسطس الجاري. ويرى جمال أن موقف الجيش المتعنت مفهوم، لا سيما بعد مطالبته بتنفيذ مخرجات جدة أولًا والبناء عليها وتطويرها. ونتيجة لذلك، يعتقد جمال أن انهيار المفاوضات وعدم إحراز أي تقدم بات أمرًا حتميًا.

لتحليل مواقف الوسطاء من المفاوضات، يطرح جمال الشريف سؤالًا جوهريًا: إذا سلمنا بأن مفاهيم الوساطة قد تطورت في جميع أنحاء العالم، وأصبح القبول بدورهم المتجاوز للتسهيل وتقريب وجهات النظر أمرًا سائغًا، فهل تنطوي مقاربة سويسرا على رهان سياسي؟

يقول جمال إنه من المبكر جدًا الحديث عن أي أجندة سياسية لوسطاء سويسرا لعدم توفر ما يكفي من المعلومات للخوض في مثل هذا النقاش، إذ لم تتوفر حتى الآن وثائق أو تسريبات يمكن الاستناد إليها للإمساك بتلك الرهانات السياسية. وبالتالي، فإن التحليل المتاح هو مجرد تصور ذهني للسيناريوهات التي كان يمكن أن تفضي إليها المحادثات.

أول تصور يمكن الإشارة إليه هو أن الدعوة قُدمت للقوات المسلحة السودانية وليس للحكومة السودانية، وهو أمر احتجت عليه الحكومة السودانية، لأنها ترى في ذلك قدحًا في سيادتها وشرعيتها. ولتأكيد رفض المسلك الدولي الظالم في نظرها، اختارت وفدًا برئاسة الوزير أبونمو كشخص مدني، يرمز لكون الوفد المبتعث يمثل الحكومة وليس القوات المسلحة.

في تقدير جمال، يفهم من دعوة القوات المسلحة وقوات الدعم السريع أن المفاوضات ستقتصر على الترتيبات العسكرية فقط دون العملية السياسية الشاملة. الترتيبات كان من المفترض أن تناقش وقف إطلاق النار وحماية المدنيين، لتنتهي باتفاق حول دمج القوات وإنشاء جيش قومي واحد على غرار ما طُرح في الوثيقة الإطارية. وإذا كان هذا هو مقصد الوسطاء، فماذا عن العملية السياسية التي التزم المجتمع الدولي بتحقيقها في السودان؟ الإجابة على هذا السؤال تعني أحد أمرين: إما أن المجتمع الدولي أراد من مفاوضات سويسرا إيقاف الحرب والمعاناة الإنسانية كما يقول، أو أنه يحتفظ بخطوة أخرى وهي فتح ملف الانتقال الديمقراطي وإنشاء حكومة مدنية.

في هذه الحالة، سيكون الأمر مناقضًا لرهانات الجيش، لأن تلك الخطوة من شأنها أن تأتي بعد حسم الملف العسكري ودمج قوات الدعم ضمن المؤسسة العسكرية، التي ستخضع لاحقًا للحكم المدني تحت ضغوطات عدة، من بينها شروط من داخل المؤسسة نفسها التي ستنبعث من قوات الدعم المدمجة في الجيش.

وفق هذا السيناريو، سينتهي الأمر إلى تحول ديمقراطي كامل، تكون الكلمة الفصل فيه للحكومة المدنية وليس للجيش، الذي تُكفكف مصادر قوته باتفاق سويسرا، وتُحدد مهمته التي ستكون حتمًا الخروج من العملية السياسية حال التوقيع على اتفاق من هذا القبيل.

يرى جمال الشريف أن رفض المؤسسة العسكرية لهذا السيناريو ليس رفضًا للتحول الديمقراطي في ذاته، وإنما في الإطار غير الشرعي للتحول المدني الديمقراطي. فالمؤسسة العسكرية ترى أن التحول يجب أن يتم بعد فترة انتقالية متوافق عليها، وأن يتم عبر انتخابات عامة، وهو الأمر الذي ينادي ويتمسك به الجيش، إذ لا تسليم للمؤسسة العسكرية إلى أي جهة غير منتخبة.

السيناريو الثاني، بحسب جمال، هو أن المفاوضات موجهة فعلًا لتحقيق الأهداف التي أعلن عنها المبعوث الأميركي توم بيرييلو، أي وقف الحرب وإنهاء المعاناة الإنسانية في السودان. وما يدعم هذا التصور هو أن هذه الوساطة تختلف كثيرًا عن الوساطات السابقة التي شهدت ضغوطًا كبيرة من القوى المدنية الأوروبية والأميركية على الوسطاء.

من المعروف أنه خلال ثلاثة عقود خلت من حكم النظام السابق، حين كان يواجه "تمردًا" في الجنوب وبعده في دارفور، نشأت قوى سياسية مدنية تدعم القوى التي تمردت في الجنوب ودارفور. وكانت تلك القوى معروفة ومنظمة سياسيًا تحت واجهات عُرفت بحملة تحالف السودان ومنظمة "أنقذوا دارفور" التي تأسست في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، فضلًا عن ما يسمى بشركاء الإيقاد. مارس هؤلاء، بحسب جمال، ضغوطًا كبيرة على الوسطاء واستطاعوا تمرير الكثير من أجندتهم، من بينها قضية تقرير مصير الجنوب كما أسلفنا. أما الآن، فيلاحظ اختفاء تلك القوى المدنية الغربية، ولم تعد تشكل ضغوطًا على الوسطاء. والأهم من ذلك، أبدت معظم هذه القوى رفضها لما تقوم به قوات الدعم السريع من انتهاكات.

يضيف جمال إلى النقاش أن تاريخ المبعوثين الأميركيين إلى السودان، بدءًا من السناتور دانفورث في 2001، مرورًا بأندرو ناتسيوس في 2005، ثم سكوت غريشن وريتشارد وليامسون في 2009 وغيرهم، يشير إلى أنهم كانوا معتدلين جدًا في مواقفهم. بل وأكثر من ذلك، كانوا أقرب إلى رؤية الحكومة السودانية والمصالح الأميركية المباشرة، إلى درجة اتهامهم من جماعات الضغط بموالاة نظام الخرطوم، مما أدى إلى استقالتهم جميعًا واحدًا تلو الآخر.

ويؤكد جمال أن هذا لا يعني بالضرورة عدم وجود أجندة سياسية خلف مفاوضات سويسرا، بل قد تكون احتمالية مصداقية هذه المفاوضات واردة وراجحة. ومع ذلك، عقب فشل مفاوضات سويسرا، اتجه الحديث إلى ما إذا كانت الولايات المتحدة قادرة على إجبار الطرف الحكومي للجلوس للتفاوض أم لا. وفي هذا السياق، لا توجد حاليًا مؤشرات تدل على وجود توجه واضح في هذا الاتجاه. يمكن القول أن للولايات المتحدة أدوات ضغط قد تستخدمها ضد الحكومة السودانية، لكن هذه الأدوات لا تتجاوز العقوبات. فعندما توسطت الولايات المتحدة في قضية جنوب السودان، استخدمت ما يُعرف بقانون سلام السودان الذي أجازه الكونغرس عام 2002 سلاحًا للضغط على الطرفين للوصول إلى تسوية سياسية. تضمن القانون عقوبات مقترحة ضد الطرفين أو ضد الطرف الذي يرفض التفاوض أو لا يتفاوض بحسن نية. وتكرر الأمر في 2007 بإجازة قانون محاسبة دارفور، وهو قانون للضغط أيضًا.

بالتالي، لا يتوقع جمال استخدام أدوات أو آليات غير سلاح العقوبات. أما الحديث عن البند السابع ومجلس الأمن، فيصعب اتخاذ أي قرار بشأن المفاوضات السودانية من خلال مجلس الأمن نظرًا لاحتمالية معارضة روسيا أو الصين أو حتى استخدام الفيتو ضده. فقد رفضت كل من الصين وروسيا، على سبيل المثال، إشارة مندوبة الولايات المتحدة في مجلس الأمن إلى إمكانية الحصول على تفويض من المجلس لإرسال المساعدات إلى دارفور دون موافقة الحكومة السودانية.

ؤال ظل يُطرح من قبل الخبراء والمهتمين كما جرى في مؤتمر العلوم السياسية في سويسرا تحت عنوان "لماذا دارفور وليس الكونغو؟"، حيث أظهرت إحصاءات موثقة أن الأحداث الدموية في الكونغو تعادل (10) أضعاف ما يجري في دارفور

يتساءل جمال في ختام تحليله، لماذا التركيز على السودان دون غيره؟ وهو سؤال ظل يُطرح من قبل الخبراء والمهتمين كما جرى في مؤتمر العلوم السياسية في سويسرا تحت عنوان "لماذا دارفور وليس الكونغو؟"، حيث أظهرت إحصاءات موثقة أن الأحداث الدموية في الكونغو تعادل (10) أضعاف ما يجري في دارفور، بينما الاهتمام العالمي يشكل (40) ضعفًا مقارنة بالكونغو.

هذه الازدواجية والانتقائية في التعامل الدولي مع السودان واضحة، خاصة عند مقارنته مع اليمن أو سوريا أو العراق أو ليبيا. ففي حالة اليمن، القتال الداخلي والنزوح والمعاناة الإنسانية لا تقل خطورة عن السودان، لكونه يشكل تهديدًا عالميًا للملاحة والتجارة الدولية، فضلًا عن تهديده لحلفاء الولايات المتحدة في الخليج. فلماذا لا يطرح المبعوث الأميركي أو الأممي وساطته على اليمن ويضغط على أطراف الصراع للوصول إلى تسوية سياسية وحل النزاع؟ ولماذا لا يتم التركيز على الانتقال الديمقراطي وتسليم السلطة للمدنيين في النيجر بعد الإطاحة بالنظام الديمقراطي هناك، كما هو الحال في بوركينا فاسو والغابون والكثير من الدول الأخرى؟

وكما أن السياسة تُعَدُّ شكلًا من أشكال الحرب، فإن التفاوض يمثل أعلى مراتبها من خلال فرض الأجندة والرهانات باستخدام الإغراءات والوعود كما جرى في نيفاشا، أو عبر التلويح بوسائل الضغط والإرغام كما يبدو من خلال الحديث عن حظر الطيران أو نشوء حكم موازٍ في مناطق سيطرة الدعم السريع، مما يشير إلى نذر تقسيم جديد في السودان قد يزيد الأوضاع المتردية سوءًا.