بعد عقودٍ من كتابته بالإنجليزية، يصدرُ أخيرًا بالعربية في السودان كتاب: "يوميات ثورة أكتوبر 1964"، لأستاذ القانون الأميركي كليف تومسون. وقيمة هذا الكتاب بجانب كونه يوثّق لإنهاء السودانيين لأول حكم ديكتاتوري، عبر ثورةٍ شعبية، تلتها ثوريتين شعبيتين لاحقتين [1985]، [2019]، إلا أنّ قيمة الكتاب في اثنين: أنّه مكتوبٌ بعيون غير سودانية، احتفتْ بثورة 21 تشرين الأول/أكتوبر 1964 السودانية وما تزال. والثاني أنّ الكتاب توثيقٌ دقيق، بزّ ما كُتب لاحقًا وسابقًا عن ثورة أكتوبر بدقة التوصيف، وحُسن الرصد، وشدّة الملاحظة.
تحتفظ سجلات توثيق السودانيين العديد من مشاهد الوطنية والبطولة لثورة أكتوبر، وكتب عنها كثيرون، من باب التوثيق والاحتفاء، وحتى النقد، كلٌ بزاويته، باعتبارها أول ثورة شعبية في العالمين العربي والإفريقي تُطيح بحكومةٍ عسكريةٍ ديكتاتوريةٍ قابضة
تحتفظ سجلات توثيق السودانيين العديد من مشاهد الوطنية والبطولة لثورة أكتوبر، وكتب عنها كثيرون، من باب التوثيق والاحتفاء، وحتى النقد، كلٌ بزاويته، باعتبارها أول ثورة شعبية في العالمين العربي والإفريقي تُطيح بحكومةٍ عسكرية ديكتاتوريةٍ قابضة. شرعت حكومة إبراهيم عبود في فرض عدد من القرارات أبرزها: تعليق الدستور، وسياساته تجاه جنوب السودان، عبر إلزامية الجنوبيين باللغة العربية، والأسلمة القسرية، بجانب التضييق على الحريات العامة، وعلى ممارسة العمل السياسي.
لم يقف الأمر عند توثيق السودانيين بشأن ثورة أكتوبر حد الكتابة والنقد والتوثيق فقط، وإنما رافق ذلك احتفاء مزامن للفنون. وتقف ملحمة أكتوبر، التي غناها عدد من المغنيين السودانيين، ولحنها المغني محمد الأمين، وكتب كلماتها الشاعر هاشم صدّيق، أصدق توثيق فني لثورة أكتوبر.
بعد تململٍ من سنوات حكم الفريق عبود، الذي استمرّ لست سنوات، كان السودانيون يقاومون سياساته بسُبل عديدة بلغت ذروتها في جامعة الخرطوم، وتحديدًا بمبنى اتحاد جامعة الخرطوم، حيث الندوة التي أعلنتها اللجنة التنفيذية لاتحاد جامعة الخرطوم، بالاشتراك مع عدد من التنظيمات السياسية بالجامعة، وسبقها في التاسع من أيلول/سبتمبر، من ذات العام ندوة أقامتها جمعية الدراسات الاجتماعية، تحدث فيها أستاذ القانون بجامعة الخرطوم حسن الترابي، قائلًا بأن المشكلة الأساسية هي وجود النظام العسكري.
سبب ترجمة الكتاب من الإنجليزية إلى العربية، يُثبته المترجم بدر الدين الهاشمي في المقدمة، فيقول: "لا ريب إن لشغفي الشخصي بثورة أكتوبر 1964، أكبر الأثر في قيامي بتعريب معظم ما ورد في هذه اليوميات، فأنا من جيل شهد تلك الثورة وتابع أحداثها، وهو في منتصف المرحلة الوسطى".
كان كليف تومسون إبان اندلاع الثورة محاضرًا حديثًا للقانون بجامعة الخرطوم، يطرق اسمه سمعي مع زملائي بالكلية، ولم أتحسب وقتها لأنني سأسمع عنه ثانيةً من السيد عبد الحميد عبد الرحمن، أو ألقاه شخصيًا بعد نحو ثلاثين عامًا.
اندلعت ثورة أكتوبر، بينما كان الدكتور كليف تومسون يقضي عامه الرابع في السودان كمحاضر مبتدئ بقانون جامعة الخرطوم، وقد صار فيما بعد عميدًا لكلية القانون بجامعة ولاية ويسكونسن الأمريكية. وجد كليف، الفتى الأميركي نفسه في طيات تلك الثورة وخفاياها، فسهر يدوّن يومياته عنها ثم تعقب قادة الثورة وروّادها في السنوات المباشرة اللاحقة يسألهم عن أدوارهم فيها. وتوافرتْ له مادة كثيفة طازجة ظل يكتب بفضلها تاريخ تلك الثورة حتى فرغ منها قبل سنتين أو نحوها.
يسرد كتاب يوميات ثورة أكتوبر للأميركي كليف تومسون أحداث ثورة أكتوبر، بالأيام، والأوقات وبتفاصيل دقيقة. وكما أشار المترجم في مقدمته فإن اليوميات التي وثقها في الكتاب هي عبارة عن "قصة إنسانية جديرة بالتسجيل، والترديد، قصة زاخرةٌ بفصول غير متوقعة وبأعمال جريئة مقدامة [....] الكتاب مستمدٌ بصورة رئيسية من المقابلات التي أجربتها مع المشاركين الأساسيين في تلك الثورة من مدنيين وعسكريين، وكان كثير من هؤلاء من زملائي الأساتذة بكلية القانون وقضاة ومحاميين. غير أن ترتيب بعض المقابلات، خاصة مع صغار ضباط الجيش، كان أمرًا عسيرًا".
لم يغفل الكتاب صدى ثورة أكتوبر في مدن السودان المختلفة
وعلى ذلك، فيظهر في فصول الكتاب التقسيم على أساس الأيام والأوقات. فتبدو العنونة للفصول بليل ونهار الأربعاء 21 تشرين الأول/أكتوبر، ثم الخميس 22 تشرين الأول/أكتوبر، منذ الليل وحتى منتصف الفجر، ثم الخميس 22 تشرين الأول/أكتوبر، من الفجر إلى منتصف النهار، وهكذا وصولًا إلى الليل المتأخر ليوم الخميس 29 تشرين الأول/أكتوبر. كما لم يغفل الكتاب صدى ثورة أكتوبر في مدن السودان المختلفة، وفي البال أنّ معظم أحداث ثورة أكتوبر وقعت في العاصمة الخرطوم. حيث نجد متابعةً لما دار في ود مدني، وعطبرة والدامر في شمال السودان. وفي الأبيض والفاشر وانتهاء بقطاري كسلا، اللذان تحركا صباح الخميس حتى وصولهما الخرطوم صباح الجمعة مرورًا بمدينة ود مدني.
كما تظهر تعليقات للأميركي كليف تومسون عن بعض الشخصيات السودانية التي برزت في ثورة أكتوبر. من ذلك فتنته الكبيرة بمولانا عبد المجيد إمام، الذي قاد إضراب القضاة، وشق طريقه إلى الضابط المسؤول لتفريق المظاهرات، ليأمره بالانصراف. يصفه كليف تومسون بأنّه "كان محدثًا بارعًا، ومستمعًا جيدًا، لكنه لم يكن يؤثر الراحة والدعة، بل كان يُحب القراءة الجادة ورعاية الحدائق".
وكذا تعليقاته على شخصية أحمد القرشي، شهيد ثورة أكتوبر، حيث يصفه بأنه "طالب العلوم الذي كان يُعيد سنته الأولى بالكلية. كان شابًا نحيلًا يرتدي بنطالًا أسود، وقميصًا أبيض اللون، كفكف أكمامه إلى منتصف ساعده. كان شابًا هادئًا يُحب الكرة ولعب الورق. وتمضي التعليقات إلى مشهد شخصيةٍ مثل اللواء حسن نصر بشير، الذي وصفه كليف بأنه "رجلٌ عُرف بالصرامة، والرغبة في كسر شوكة العصيان ولو بإراقة الدماء". أو تعليقاته على حسن الترابي، نائب عميد كلية القانون بجامعة الخرطوم -وقتها- الذي يصفه كليف بكونه "شخصية أكاديمية، وكانت كل الأحوال والحوادث التي وقعت أثناء سنوات دراسته في المرحلة الوسطى والثانوية، مدعاةً للمظاهرات والإضرابات".
بل وترافقت تعليقات كليف تومسون وهو يوثق ويدوّن أحداث وتفاصيل ثورة أكتوبر، التي انتهت بتفاوض العسكريين والمدنيين لاختيار الحكومة المدنية، التي أتت بنائب وكيل وزارة التربية والتعليم سر الختم الخليفة ليكون رئيسًا لوزراء حكومة ثورة أكتوبر. يُعلّق كليف تومسون عقب الانتهاء من جولات التفاوض "كان الوفد المدني المفاوض، يحس بأنه أعطى الوفد العسكري أكثر مما يستحق، وأحس الوفد العسكري بأن العكس هو الصحيح. رغم هذا فلقد كان المدنيون أكثر سعادة إذ أنهم أزالوا الحكم العسكري الديكتاتوري، وأعادوا الديمقراطية".
شغف كليف تومسون بثورة أكتوبر لم يقف عند توثيقه لأحداثها فقط باعتباره شاهد عيان غير سوداني، وإنما تجاوز ذلك حد تدريسه قيمتها وأحداثها وما نتجت عنه فيما بعد
شغف كليف تومسون بثورة أكتوبر لم يقف عند توثيقه لأحداثها فقط باعتباره شاهد عيان غير سوداني، وإنما تجاوز ذلك حد تدريسه قيمتها وأحداثها وما نتجت عنه فيما بعد في فصولٍ وحلقات دراسية بجامعة كولومبيا بنيويورك، وكذا منحه للمقابلات التي أجراها مع قادة ثورة أكتوبر إلى مكتبات جامعات غربية عديدة، مثل: وسيكونسن، رودس هاوس، أكسفورد، لندن وغيرها.