على ذات النسق الذي خرج به قائده العام الفريق أول عبد الفتاح البرهان في الخامس والعشرين من آب/أغسطس المنصرم، حملت وسائل الإعلام السودانية مقاطع فيديو لمخاطبة ارتجالية تحدث عبرها الفريق شمس الدين الكباشي نائب القائد العام للقوات المسلحة من منطقة كرري العسكرية، حيث وعد فيها بقرب النصر كما ندد بما وصفه "انتهاكات جسيمة في حق المواطنين" قامت بها عناصر الدعم السريع في مناطق واسعة من السودان، مؤكدًا على دنو لحظة الفوز الحاسم في وقت قريب. وعلى ذات الصعيد انتشر مقطع فيديو مجتزأ من لقاء لكباشي مع نخبة من الضباط تحدث في مختتمه حول اعتزامهم تلبية دعوة المملكة العربية السعودية لاستئناف المفاوضات بجدة "يوم الخميس"، ولم يتسن لـ"الترا سودان" التأكد من زمن تسجيل اللقاء، ورجّحت مصادر متطابقة أن الحديث المنسوب للفريق كباشي قيل في ظرف مختلف واقتطع من سياقه لتغليب منطق التسوية دون النظر في عواقب عمق الأزمة الماثلة وما يحيط بها من استحقاقات ورهانات تجعل مجرد الذهاب للتفاوض دون استكمال المهام الميدانية العاجلة أشبه بالعودة من منتصف الطريق.
رئيس قسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة الجزيرة: مياه كثيرة جرت تحت جسر الأحداث ما بين خروج البرهان قبل نحو (60) يومًا وخروج الكباشي بالأمس، مما يعزز فرضية ارتخاء قبضة الدعم السريع وتضاؤل قوته العسكرية
وحول دلالات الخروج "المفاجئ" لكباشي يؤكد دكتور حسن حسين رئيس قسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة الجزيرة، أن مياهًا كثيرة جرت تحت جسر الأحداث ما بين خروج البرهان قبل نحو (60) يومًا وخروج الكباشي بالأمس، مما يعزز فرضية ارتخاء قبضة الدعم السريع وتضاؤل قوته العسكرية وتلاشي سردية الانتشار بما تعني الهيمنة، إذ استطاع كباشي وصول وادي سيدنا بغير خسائر بشرية كما سبق وأشار البرهان في "خروجه الصاعق" مفندًا مزاعم إخراجه من قوى دولية باحتسابهم "شهداء" في سياق ما وصفه بأنها "عملية خالصة للقوات المسلحة شاركت فيها أسلحة وتشكيلات مختلفة".
ملابسات الخروج الثاني لقيادة رفيعة في المؤسسة العسكرية تمثل ثقلًا رمزيًا واعتباريًا ومهنيًا إلى جانب وزير الدفاع يقرأ منه -بحسب دكتور حسن- تماسك الجيش في رؤيته ومنهجه إزاء التعامل مع الدعم السريع على المستوى الميداني المباشر وعلى مستويات المشهد السياسي داخليًا وخارجيًا وتعقيداته، والتعويل على كباشي المسندة إليه ملفات مهمة تتعلق بالإشراف على الوزارات السيادية ضمن آخر تقسيم أصدره البرهان، نظرًا لأهليته المهنية وما تكونت فيه من ثقة عند هيئة أركان الجيش وضباط وجنود المؤسسة.
ويرى د. حسن في حديثه لـ"الترا سودان" أن الكباشي تنتظره قضايا شائكة تتعلق بالمقاربة التي أنتجت اتفاق جدة الإطاري ومنحت بموجبه الدعم السريع ذات الشرعية كمؤسسة موازية في الدولة، والنظر إلى طرفي الصراع كمعادلين في الحرب الدائرة، وهو ذات المواقف الذي سارت في ركابه الرباعية الدولية والاتحاد الأفريقي ومساقات الحلول المقترحة خارجيًا. ويعتبر رئيس قسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة الجزيرة، أن خروج الكباشي يقرأ في إطار الانتصارات التي حققها الجيش مؤخرًا في الضعين ونيالا والفاشر، وإفشال كل الهجمات التي تمت على مقار الجيش وحامياته العسكرية .
الذهاب إلى جدة عبر بورتسودان -التي نهضت مركزًا جديدًا وبديلًا في خضم الأحداث الجارية- يعد محطة أثيرة بحسبانها المنبر المجمع عليه من فرقاء السياسة والحرب، وتمثل -بحسب محللين- أقرب وأبعد نقطة من حيث الجغرافيا ومن حيث تقديرات الاقتصاد السياسي.
ويرى عمرو صالح يس الفاعل السياسي والمحلل البنيوي، في قراءة معمقة للحدث، أن الراجح بخروج الكباشي إلى بورتسودان هو مصاحبة قائده العام في الذهاب إلى جدة لتعزيز ثقة المؤسسة العسكرية في مسار مفصلي كهذا. مسائلًا في الوقت ذاته الأفق الذي تترسمه الخطوة المفاجئة؛ أهي إيذان بقرب تفاوض توازن قوى للجيش "تفاوض استسلام للمليشيا"، أم إشارة إلى قرب العملية البرية؟ مؤكدًا صعوبة التحليل في ظل تغييب المعلومات وضعف الأداء السياسي للدولة على عكس أداء الجيش في إدارة المعركة.
وباستعراض الموقف العسكري الميداني، يذهب عمرو إلى تراجع المقدرات العسكرية للمليشيا و"بلوغ روحها الحناجر" إذا قيست سياسيًا، فضلًا عن أن إمكاناتها الحالية لن تمكنها في أحسن الأحوال من الحفاظ على أي امتياز عسكري أو سياسي أو اقتصادي، ما يعني أن وضعها الميداني لا يؤهلها في الدخول في تفاوض "توازن ضعف" مع الجيش. ويرجح صالح أن الجيش لا يمكنه تحقيق توازن قوة لصالحه أو تفاوض استسلام وخضوع كامل إلا بعملية برية واسعة ومتعددة المحاور في الخرطوم بهدف قصم "المليشيا" ونزع جميع امتيازاتها وتوفيق أوضاعها العسكرية، سيما المستسلمين من جنودها، وفق ما هو متعارف.
ويقرر عمرو ضرورة التمييز بين العملية السياسية لإنهاء الحرب والعملية السياسية لابتدار انتقال ما بعد الحرب، فالعملية السياسية لإنهاء الحرب والمزمع استئنافها في جدة هي بين طرفين حصريين هما الدولة و"المليشيا"، أما انتقال ما بعد الحرب فهي عملية شاملة ينبغي أن لا تستثن أحدًا على مبدأ العدالة الانتقالية. ويرى عمرو أن ترفيع منبر جدة من وظيفة إنهاء الحرب إلى معالجة موضوع انتقال ما بعد الحرب لن يكون مناسبًا ولن يفضي إلى حل شامل ومستديم عوضًا عن احتمال نشوب الحرب على نحو أكثر ضراوة وأعمق ضررًا. كما يشدد على رفض أي تفاوض يبقي على الدعم السريع وامتيازاته، إذ من العقلانية السياسية -بحسب عمرو- القبول بالتعامل مع (30) ألف جندي كجنود مستسلمين، بينما اعتبار (30) ألف جندي فقط هم مؤسسة الدعم السريع أمر ينافي العقلانية والمنطق السياسي الرشيد. ويتابع: "الثمن الوحيد الممكن لهذه الحرب هو تصفية وجود الدعم السريع كمنظومة مستتبعة للمحاور، وليس تصفية الجنود الذين يمكن إدماجهم في الجيش".
ويؤكد: "المصلحة تقتضي لـ"اقتصاد سلام الدولة السودانية السياسي" إنهاء هذه الحرب عبر عملية برية واسعة متعددة المحاور إذا كان ذلك ممكنًا، والذهاب للتفاوض بعد ذلك، فهذا من شأنه إسكات المقاومة المسلحة وإلى الأبد وإضعاف القوة التساومية لأي حراك مسلح ضد الدولة المركزية وهو مفيد للسلام".
وعلى نحو ما حمل خروج البرهان الأفق السياسي من الحصار في "شعاب" القيادة وأقبية "البدروم" وخطابات الاستعلاء العسكري التي تصدر متطابقة من حميدتي وشقيقه والناطق بلسان حالهم ومقالهم المستشار عزت يوسف، وهم يصرحون -مصعرين خدودهم- بضرورة أخذ الإذن للخروج ومنح فروض الطاعة والامتثال لشروط سيطرتهم والاستسلام لها - جاء الخروج الثاني لكباشي ووزير الدفاع ليؤكد أن مفاعيل ما يجري على الأرض أعمق من الاستسهال "الكذوب" والاسترسال "الزائف" لسرديات الحرب في نشوئها وارتقائها وطبيعتها وأسئلتها ورهاناتها المضمرة من قوى الداخل والخارج.
أيًا كان الأفق الذي يتوسمه الخروج الثاني والمسار الذي يترسمه، فإن المشهد وهو يتخلق الآن أعقد من اختزاله في مباريات كسب النقاط وتسديد الأهداف في مرمى الخصوم
وأيًا كان الأفق الذي يتوسمه الخروج الثاني والمسار الذي يترسمه، فإن المشهد وهو يتخلق الآن أعقد من اختزاله في مباريات كسب النقاط وتسديد الأهداف في مرمى الخصوم، إنه مشهد تتداعى فيه مناورات السياسة وتكتيكات العسكر، ويحاط به من فاعلين دوليين يتجاذبون خطام المواقف إلى حيث الخروج بأقل الخسائر الإستراتيجية بعد أن فشلت حربهم في تحقيق أعلى ربح ممكن.