مثّل الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001 لحظة فارقة في السياسة السودانية، داخليًا وخارجيًا، وعقب الأحداث مباشرة قدم السودان عروضه المتكررة للتعاون الاستخباري، فانتهزت واشنطن الفرصة، وجرى إبرام صفقة لإنشاء محطة لمكتب التحقيقات الفيدرالي والاستخبارات الأمريكية في الخرطوم.
وبُعيد الأحداث، خرج الرئيس الأمريكي حينها بوش الابن، معلنًا قاعدة جديدة يتبناها في علاقاته مع بقية دول العالم وهي: "إما أن تكون معنا أو مع الإرهاب".
أدانت أغلب دول العالم هجمات الحادي عشر من سبتمبر، بما فيهم نظام الخرطوم
وأدانت أغلب دول العالم الأحداث بما فيهم نظام الخرطوم. وأعلن السودان استعداده للتعاون مع الإدارة الأمريكية في الحرب على الإرهاب، وتحول السودان بعدها إلى هدف استخباراتي بالنسبة للولايات المتحدة، يتعلق بأمنها القومي. وازدادت المصالح الأمنية الأمريكية تجاه السودان بعد 11 أيلول/سبتمبر، وهذه المصالح غير مصالح الجماعات المسيحية المحافظة.
ووفقًا للتقارير الصادرة من الولايات المتحدة، فإن العلاقات والتنسيق الأمني أثمر عن توفير معلومات مهمة ودقيقة للاستخبارات الأمريكية، وقادت على سبيل المثال إلى اعتقال الاستخبارات السودانية لمشتبهين من تنظيم القاعدة للتحقيق معهم بواسطة محققين أمريكيين، ومن بين الذين تم التحقيق معهم محمد أبوزيد الأمريكي من أصل سوري الذي يُعتقد أن له علاقة بأسامة بن لادن، والعراقي مبارك الدوري.
وكذلك تم التحقيق مع مدير بنك الشمال السوداني الذي كان يودع فيه أسامة بن لادن أمواله. وسلم السودان عددًا من المشتبه فيهم إلى السعودية، منهم مشتبه فيه سوداني الجنسية يدعى أبوحذيفة، قيل إنه اعترف بدوره في مؤامرة فاشلة عام 2002م لإسقاط طائرة أمريكية في السعودية بصاروخ أرض جو، وقد حكم عليه بالسجن في السعودية.
قدمت الاستخبارات السودانية للولايات المتحدة معلومات مهمة عن تحركات بعض الأشخاص المشتبه في علاقتهم بالإرهاب في بعض الدول المجاورة كالصومال. وجرى إبعاد متطرفين وتسليمهم إلى استخبارات دول عربية لها تعاون وثيق مع المخابرات الأمريكية. وأحبطت هجمات ضد أهداف أمريكية، وذلك باعتقال متطرفين أجانب كانوا يعبرون السودان للانضمام إلى المسلحين في العراق.
عقب أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، تغيرت سياسات السودان بصورة كاملة، إذ تبنى النظام الحاكم نظرة جديدة تختلف تمامًا عن نظرة زعيم الحركة الإسلامية الشيخ حسن الترابي الذي كان يريد أن تدار السياسة الخارجية بـ"عزة واستقلال" وترفع الحدود عن المواطنين العرب والمسلمين لتحقيق "الوحدة الإسلامية"، إذ حدثت نقلة كبيرة بعد إدانة السودان في الأمم المتحدة بمحاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك في العام 1995، وكان الحصار على السودان دوليًا يمضي بخطى متسارعة.
تغيرت السياسة الخارجية، واتخذ جهاز الأمن السوداني خطوات كبيرة، إذ بعث رئيس الجهاز حينها قطبي المهدي برسالة إلى مدير "السي آي أيه"، ونشرت في عدد من وسائل الإعلام الغربية. وبدأ تعاون أمني كثيف بين المخابرات الأمريكية والأمن السوداني في عهد صلاح قوش، إلى الدرجة التي بعثت فيها المخابرات الأمريكية طائرة خاصة لمدير الأمن السوداني صلاح قوش، واحتجت الخارجية السودانية حينها. وبدأ تسليم الإسلاميين وطردهم من السودان، الأمر الذي وصفه مراقبون بأنه تحول كبير في السياسة الخارجية؛ من سياسة متمردة تتبنى شعار "أمريكا روسيا قد دنا عذابها"، إلى سياسة إذعان تام للجانب الأمريكي.
عقب ذهاب حكومة كلينتون الديمقراطية التي رفضت التعاون مع صلاح قوش والتعامل مع الملفات التي قدمها لحكومة كلينتون وكشفه لأسماء الإسلاميين وتسليم المخابرات الأمريكية معلومات ضخمة جدًا، عقب أحداث 11 أيلول/سبتمبر، وجهت وسائل إعلام أمريكية ومحللون نقدًا شديدًا لسياسات كلينتون، بأن ما حدث "كارثة استخباراتية" عندما رفضت إدارة كلينتون التعامل بجدية مع التقارير التي سلمها لهم السودان، وقالوا لو أنها تعاملت بجدية معها، لأمكن تفادي ضربة 11 أيلول/سبتمبر، إذ أرسل بعد ذلك زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن الذي كان يقيم في الخرطوم - أرسل إلى أفغانستان، والثلاثة الذين كان مقررًا إعدامهم، أرسلوا كذلك إلى أفغانستان، ومنهم منهم مصطفى حمزة وغيره.
كان لجهاز الأمن السوداني وللحركة الإسلامية إدارة خاصة بالمجاهدين والحركات الإسلامية، وكانت هذه الإدارة تتعامل مع القاعدة
كان لجهاز الأمن السوداني وللحركة الإسلامية إدارة خاصة بالمجاهدين والحركات الإسلامية، وكانت هذه الإدارة تتعامل مع القاعدة، وأخرجت عددًا من التونسيين خارج البلاد. وسلمت هذه الإدارة المخابرات الأمريكية معلومات قُدرت بـ(300) ملفٍ، وعندما انتقد الإعلام الأوروبي المخابرات الأمريكية، قالت إن المعلومات التي وفرتها المخابرات السودانية، لم توفرها حتى إسرائيل، وأنهم يريدون مخابرات تتحدث العربية وتتعامل مع القاعدة وتدخل معها مواقعها في العراق وغيرها، وقالوا إنهم يفضلون المخابرات السودانية على الموساد، مشيرين إلى أنها أعطتهم معلومات أهم من معلومات الموساد.
تنفس النظام في الخرطوم الصعداء، وتزامن ذلك مع إرسال المبعوث الخاص دانفورث الذي عمده الرئيس الأمريكي بوش مبعوثًا إلى السودان. وبعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر؛ تعثرت مهمته قليلًا، ثم بدأ المسار بصورة جادة للتفاوض في نيفاشا لحل قضية الجنوب.
أثرت هجمات أيلول/ سبتمبر بصورة بالغة على السودان، ووصف أحد زعماء النظام المقربين من مركز السلطة عقب المفاصلة بين البشير والترابي، فيما عرف بمفاصلة القصر والمنشية، بأن هذا الأمر من "بركات الشيخ الترابي"، لأنه "لو لم يحدث الانشقاق في الحركة الإسلامية، لاجتاحت أمريكا السودان مثلما اجتاحت العراق وأفغانستان" وفقًا للقيادي. وأضاف القيادي مبررًا المفاصلة، بأن الترابي لو كان على رأس النظام لحدث للسودان ما حدث في أفغانستان والعراق ضمن موجة الحرب على الإرهاب.
كان العامل الخارجي مهمًا في المفاصلة الشهيرة بين عراب النظام وشيخ الحركة الإسلامية الشيخ الترابي، والرئيس البشير، بالرغم من الصراعات المتعددة، صراع الترابي والبشير وصراع السلطة الزمنية والسلطة الروحية والنظام والحركة الإسلامية، لكن العامل الخارجي لعب دورًا كبيرًا، إذ قالت المجموعة التي بقيت في السلطة إن المشكلات في الحكومة كلها بسبب الترابي، و"نحن تخلصنا من الترابي". وذهبوا إلى مصر التي كانت تكن عداءً شديدًا للنظام في السودان، وكانت ترغب في ضربه، لكن عقب ذلك، تحولت العلاقة بالنظام المصري وبدأ تعاون بين المخابرات المصرية والسودانية.
حدثت تحولات مهمة جدًا خلال هذه الفترة؛ فداخليًا كما سبقت الإشارة، تغيرت بنية النظام الإسلامي، وانشق عنه الأب الروحي الذي تصنفه دول عديدة -منها الولايات المتحدة- في خانة العداء. ودوليًا تزامن ذلك مع وصول المحافظين الجدد إلى السلطة في الولايات المتحدة الأمريكية، وألقت الأحداث بظلالها على السياسة العالمية، خاصة بعد اتهام الولايات المتحدة لـ"تنظيم القاعدة" بقيادة أسامة بن لادن بتنفيذها. وأعلن بن لادن لاحقًا مسؤولية تنظيم القاعدة عن الهجوم.
كانت لابن لادن علاقة طيبة بالنظام في الخرطوم، وظل مقيمًا فيها منذ عام 1990 وحتى 1996
كانت لابن لادن علاقة طيبة بالنظام في الخرطوم، وظل مقيمًا فيها منذ 1990 وحتى 1996م. ولكن هذه الأحداث قادت إلى تغيرات كبيرة في السياسة الأمريكية، بدأت مع إعلانها الحرب على الإرهاب، ومنها الحرب على أفغانستان وسقوط نظام حكم طالبان، والحرب على العراق، وإسقاط نظام صدام حسين أيضًا.
الجدير بالملاحظة أن تفاعلات العلاقة بين السودان والولايات المتحدة الأمريكية سيطرت عليها عوامل رئيسية لها الأثر البالغ في تحديد مسارها. ويمكن النظر إليها من ثلاث زوايا: الأولى تتعلق بآليات صنع القرار الأمريكي وتجاذباتها، والثانية تتصل بالتفاعلات والصراعات الإقليمية ودور السودان فيها، والثالثة هي سياسة النظام السوداني الداخلية وردّات فعل الدوائر الرسمية والمدنية تجاه هذه السياسات.