"لو كنا في موقع الحرية والتغيير لقاتلنا إلى جانب الدعم السريع".
"الحرب خلاصة أسيفة لفرقاء مشهد ما بعد ديسمبر، وهي بالمعنى الأعمق تفجير للقضايا المُرحّلة منذ الاستقلال".
"المعارك المشتعلة حاليًا ضد الدولة والمجتمع والمصالح العمومية، ولن تفضي إلى تأسيسات جديدة".
"لسنا محايدين، بل منحازون إلى حماية الناس وأمنهم وحقهم في العدالة والعيش الكريم".
"الحرب حلقة في المشروع الإمبريالي الذي يهدف إلى تفكيك السودان واستتباعه للدوائر الخارجية".
"لا يمكن اعتبار الاتفاق الإطاري إلا منفستو للحرب وتجسيدًا للإرادة الدولية وأجندة السفارات".
"الدعم السريع شركة تعاقدية تخدم الاستعمار الجديد".
"بسبب تحويلها الدولة إلى غنيمة، شهدت الإنقاذ أكبر دخول من الأعضاء الوافدين إلى نادي القوى الإرثية".
"الدعم السريع بتركيبتها الاجتماعية العائلية ونزوعها السلطوي ظاهرة إرثية بامتياز".
"صعود النبرة المناطقية والنعرة العرقية من تقنيات الاستعمار الجديد".
"الدعم السريع تمثل مصالح قوى اجتماعية معتبرة.. ووجودها ضروري في مشروعات التسوية القادمة".
"نمط الحكم الفيدرالي لا يغني عن إنضاج الوعي القومي، ولا بد من مواجهة مشروع التقسيم الذي تلوح إرهاصاته أقرب من أي وقت".
"لا بد من إخضاع الجيش لسلطة الدولة وتحديثه وفق الشروط المهنية بالمعنى الممتلئ للكلمة".
إزاء موقفه من الحرب وطبيعتها وسردياتها وخطابها، مضى "الترا سودان" يستجلي مع معمر موسى طبيعة الصراع وأنماطه وأفق الحل المنشود
مدير مركز مناظير جديدة للأبحاث والنشر معمر موسى محمد، باسمه ورسمه المائز، لا يكتفي في سياق التأكيد على المنظور المحلي ومقاومة مفاعيل الاستعمار عبر أنماطه الثقافية المتجددة بارتداء جلباب واعتمار عمامة، وإنما يمضي بنحو أعمق في الاشتغال النظري وإشعال النقد في سوح السياسة وميادينها وعلى عوالم الميديا الافتراضية. كوّن "تيار المستقبل" مع شباب فاعلين في المجال العمومي، وشغل رئيس مجلسه الوطني، وأصبح مديرًا لمركز "مناظير جديدة للأبحاث والنشر" الذي ينشط في نقد النماذج التنموية ما بعد الاستعمارية ومقاومة النظم العولمية والتيارات الليبرالية. نشر المركز مجموعة من الكتب والمؤلفات، وأسهم بنحو في إثراء النقاش الفكري والمعرفي في السودان. تعرض معمر موسى في طور ما بعد الانتقال للاعتقال، وخرج عنه بضغوطات من الثوار والناشطين بعد اعتصام شهير سمي "اعتصام العدالة". أصدر "تيار المستقبل" رؤية بشأن الحرب الدائرة في السودان بين الجيش والدعم السريع منذ الخامس عشر من نيسان/أبريل الماضي أطلق عليها وصف "الصراع"، ونأى بنفسه عما يراه اصطفافات تزيد من واقع الانقسام وتعمق مستويات الصراع. وإزاء موقفه من الحرب وطبيعتها وسردياتها وخطابها، مضينا نستجلي معه طبيعة الصراع وأنماطه وأفق الحل المنشود مع جولات التفاوض الذي استأنف بجدة من جديد، فكان هذا الحوار الصريح، فإلى مضامينه:
1. فور اشتعال الحرب انطلقت سرديات تسعى إلى إنتاجها بوصفها معركة بين "جيش كرتي" ودعاة الديمقراطية.. كيف تراها أنت من موقع الفاعل والمراقب؟
للصراع الحالي أوجه متعددة، وعوامل متداخلة أسهمت في تغذيته، وهي تتراوح بين السياسي المحلي، والجيوسياسي الإقليمي، والصراع الاجتماعي، بل وحتى الفشل النظري، فنحن بمعنى من المعاني أمام ظاهرة مركبة ومخاتلة ولها أوجه مختلفة ومستويات متعددة، ولا يمكن أن ندركها ونبلغ حقيقتها بهدف تجاوزها دون الابتعاد عنها والنظر إليها من خلال مسافة نقدية تفصلنا عنها للتفكير خارج الثنائيات التي تعج بها عوالم الميديا، وهي ثنائيات مصنوعة من أجل التحشيد والتعبئة. ولنفكر أيضًا خارج "هستيريا الحرب" التي صنعتها أصوات قذائف الطائرات ومدافع الهاون وطلقات الثنائي، وما عززته الإثارة التي تفيض بها خطابات التحريض المحمولة على آليات البث المباشر. وحين نقوم بذلك سنجد أنفسنا مضطرين إلى تجاوز التفسيرات "الهاشتاقية" المطروحة والمصممة ليسهُل تداولها بين العامة، كتعريفها بأنها "ثورة هامش" أو حرب في سبيل التحول الديمقراطي والقضاء على "الفلول" وتفكيك "الدولة العميقة"، أو التعريف المقابل بأنها "معركة كرامة" وإعادة تأسيس ودفاع عن الجمهورية.. كل تلك التعريفات التي تقدمها أطراف الحرب هي بالضرورة تعريفات تعبوية وليست حقيقية، ولا تستهدف وصف الظاهرة وتفسيرها لتجاوزها، فكل الأطروحات والتعريفات لا تعدو في نظرنا سوى تأكيد لسياق التعبئة ومنطق التحشيد.
حاولنا في تيار المستقبل أن نخلق هذه المسافة النقدية الضرورية للنفاذ إلى عمق الحدث المشتعل حربًا منذ الخامس عشر من نيسان/أبريل الماضي، وناضلنا لنفكر من خارج "هستيريا الحرب" وثنائياتها الهاشتاقية المصنوعة، فأجرينا أول وقوع الواقعة مساءلة حول ما الذي حدث، وما طبيعته، وأسئلته، ودوافعه، والسياقات التي أنتجته؛ فخرجنا بورقة في اليوم الخامس للحرب تحت عنوان: "وصف الصراع"، كانت حصيلة نقاش داخلي بين عضوية تيار المستقبل عبر منهج المناظرات بين تيارات ووجهات نظر مختلفة داخل السياق الكلي للأيديولوجيا ونظام تفكير التنظيم. خلصت الورقة إلى أن الحرب الحالية مركبة من حيث عواملها ودواعيها. ولكي نمسك بأسبابها بغرض تجاوزها، حاولنا أن نعرفها بمداخل مختلفة، فهي من موقع الفاعلين السياسيين المحليين وتفاعلاتهم تعد خلاصة أسيفة لصراع فرقاء المشهد السياسي ما بعد ديسمبر كون الحرب –في واحدة من تجلياتها– ممارسة السياسة بأدوات العنف والإكراه. وواضح أن النزاع اشتعل بسبب انغلاق الأفق السياسي بين الشركاء المتشاكسين في مرحلة ما بعد الثورة. والحرب من حيث البعد الاجتماعي تعبر بوضوح عن سرديات الخطاب الثقافوي والمنطق المناطقي والعرقي والإثني. وهي أيضًا تعبير عن التركة الاستعمارية وقنبلتها الموقوتة المتعلقة بالسياسة التي أنتجت القبيلة بوصفها كيانًا سياسيًا اعتباريًا ومنَح الإدارات الأهلية طابعًا سياسيًا وإداريًا رسميًا وسلطةً على الأرض، وهي كما ذكر ممداني ضرب من تقنيات الحكم غير المباشر في كتابه الأثير "لا مستوطن ولا مواطن.. صنع أقليات دائمة وتفكيكها"، وقد أكد في أطروحته إزاء الحكم غير المباشر أن الاستعمار فشل في حكمه المباشر في استنساخ تجربته الأوروبية لحكم المستعمرات، وقطع الطريق على أي تضامن مستقبلي بعد الثورة الهندية والمهدية، لذا توجه إلى منح القبيلة نفوذًا حقيقيًا، وتحويل رجال الإدارة الأهلية إلى أصحاب سلطة سياسية وسيادية على الأرض، فما يحدث جزء من التركة الاستعمارية في السودان.
هناك أيضًا قراءة متعلقة بالتنافس الجيوسياسي الإقليمي والدولي على السودان، ومن ذلك سترى من هذا المنظور حربًا يخوضها الجنرالان بعلاقاتهما وارتباطاتهما وتقاطعاتهما مع مشروعات الهيمنة الجديدة والاستعمار الحديث، مع فهم ما يجري من صراع على ملف سد النهضة وظلال صراعات غرب أفريقيا ومشروع الإمبريالية الفرعية في الخليج ونزعاتها في بلوغ دور الوكالة عن المشروع الاستعماري العولمي، وقراءة كل ذلك في إطار الصراع الكوني وبروز الأقطاب الناشئة والصناعيات القطبية في العالم، وتأثير هذا الأمر تأثيرًا مباشرًا فيما يحدث بالسودان. ستجد لهثًا دائمًا من قادة الحرب لاسترضاء الدوائر الممسكة بمشروع الهيمنة العالمية بالسودان واستمالتهم، لذا فإن أغلب الخطاب الصادر في الداخل مقصود به الخارج.
ستجد أن هناك مشروعات لإعادة هندسة السودان سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا، وتمكين جنرالات حرب اتصفوا بالعمالة والارتزاق. لذا فليس بمستغرب أن تقسم السودان إلى مربعات أمنية يتحكم فيها مليشيات، وهي ظاهرة مهمة في سياق إدراك معنى الحرب الحالية. والحرب كذلك بصورة مباشرة تعبير عن التنافس بين الجنرالين المغامرين. وفي فترة قصيرة ما بعد الثورة شاهدنا عدة تحركات واستقطابات وانقلابات على السلطة وانفجارًا ضخمًا في المليشيات وأنماطها تجاوزت المائة مليشيا. الحرب تظل تأكيدًا للمعنى المشهور أن العسكريين فاشلون سياسيًا.
والحرب بمعنى أكبر هي انفجار للقضايا المُرحَّلة منذ استقلال السودان والمتعلقة بأسئلة الدستور والتوزيع العادل للسلطة والثروة والتعامل معها تكتيكيًا وليس على نحو إستراتيجي. الحرب هي أيضًا انفجار اجتماعي، فالقوى الأمنية المسيطرة على المؤسسات السياسية والإعلامية ومجالات التأثير المختلفة أطبقت الخناق على المجتمع الذي ثار بدوافع ذاتية بصرف النظر عن التأثير الخارجي. ودائمًا ما كانت هناك خطط ومسارات بديلة تُساق عبرها الثورات إلى غير مراداتها وتطلعات جماهيرها الفاعلة، والسيطرة عليها كما حدث في تشرين الأول/أكتوبر 1964 ونيسان/أبريل 1985. وكانون الأول/ديسمبر 2018 على ذات النسق، بدت اندفاعة المجتمع نحو التغيير فيها قوية تشبه جريان النهر رغم محاولات الإعاقة المستمرة من مؤسسات الهيمنة كما أسلفت، مما أدى إلى فيضان المجتمع كما هو حادث اليوم.
هناك عامل مهم لا يمكن إغفاله في دواعي نشوب الحرب بسبب الاتفاق الإطاري، وهو تجسيد للإرادة الدولية وأجندة السفارات ومبعوثي الدول الاستعمارية ووضعهم الاتفاق الإطاري كمنفستو للحرب، وخلق إطار لإعادة هندسة السودان أمنيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وتوجيهه سياسيًا بهدف خلق حالة تبعية دائمة يعززها الاتفاق الإطاري الذي لا يمكن تصوره بغير أنه منفستو للحرب. واقع المعاناة التي يعايشها السودانيون بمشقة بالغة يقف من ورائها مبعوث الأمم المتحدة ومناديب الإمبريالية العالمية وفرعيتها العربية.
2. تصدرون في مواقفكم السياسية بوصفكم تيارًا سياسيًا صاعدًا عن تحليل جريء للأحداث والسياسات وفعل المؤسسات.. لماذا اتسمت مواقفكم إزاء الحرب المشتعلة مؤخرًا بالغموض والإبهام وفي أحسن الأحوال بالحياد غير المفهوم لدى قطاع كبير من الفاعلين؟
ليس صحيحًا أننا محايدون إزاء ما يجري. نحن لا نستمد موقفنا من قوة الخطاب الإعلامي لطرف من الأطراف أو "الترندات" التي صنعت في سياق الحرب، إنما نحن تنظيم لديه إطار أيديولوجي وتأسيس نظري، ومواقفنا تصدر عن هذا الإطار والتأسيس على جميع المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية وحتى الأمنية. نحن ضد الحرب. وتعريف موقفنا بأنه محايد هو ضرب من الابتزاز يصدر عن طرفي الحرب المنظور إليها من جهة على أنها ثورة هامش أو حرب كرامة للحفاظ على الدولة. نحن منحازون إلى الشعب، ونرى أن المعارك المشتعلة حاليًا ضد المجتمع وضد الدولة وضد المصالح العمومية.
نحن ضد الحرب ونعمل على إيقافها بأدوات مختلفة حسب ما هو متوافر لنا ويتسق مع طبيعة أهدافنا وأنشطتنا. نرى ضرورة تعريف ما يحدث بأنه حرب أهلية، فلا هي بالثورة المزعومة من أجل الهامش و لا هي حرب كرامة من أجل الدولة، هي في حقيقة الأمر حرب تفتقد إلى أي سند أخلاقي أو سياسي أو نظري فكري. وأبرز شاهد على أنها حرب أهلية أن ما يُسال فيها من دماء عزيزة هي دماء السودانيين وما تزهق من أرواح وما تنهب من أموال هي للسودانيين، كذلك البنية التحتية التي دمرت هي التي انفق عليها السودانيون لأوقات طويلة من جهدهم وعرقهم، وهي قبل هذا وذاك تحصد نفوسًا عزيزة من الشباب السودانيين، سواء في الجيش أو الدعم السريع. هي حرب أهلية وهكذا ينبغي أن تُعرّف بلا أدنى احتيال لغوي، ومن أجل ذلك نحن ضدها.
الحرب أيضًا –في جانب مهم من تبدّياتها– حلقة من حلقات المشروع الإمبريالي الجديد في السودان، والذي يستهدف تفكيك البلد وضرب نسيج الوحدة الاجتماعية وسلب الوطن سيادته لاستتباعه استتباعًا كاملًا للدوائر الخارجية. كلنا نرى مقدار التدخل الخبيث في شأن السودان ومقدار تسرب أسرار مقدراتنا العسكرية والاقتصادية وتناقضاتنا الاجتماعية وكل أسرار أمننا القومي الذي بات مكشوفًا لكل الأعداء والمتربصين. كلنا نرى مقدار التدخل المخابراتي تحت ستار المساعدات الإنسانية التي يستجاب لها من تلقاء مضاغطات الحرب وما تفرضه من شروط استثنائية. كلنا شاهدنا ما جرى في "أم جرس" وما نقلته التقارير وما شكلته من غطاء لتدفق الدعم المالي واللوجستي وإرفادهم السخي بالسلاح النوعي. وكلنا شاهدنا ما يقوم به مندوبو أطراف النزاع واستعطافهم للقوى الدولية والإقليمية التي لا تؤدي في مختتم الأمر إلا إلى تبعية كاملة وفقدان السيادة. بالإضافة إلى التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية للحرب. نحن لسنا تنظيمًا مناطقيًا لننخرط في ما فرضته الحرب من صراع إثني وثقافي وجهوي والذي ألقى كما نرى بظلال سالبة على كثير من التنظيمات بما فيها ذات الصبغة الأيديولوجية التي تخلى بعض منتسبيها عن أنظمة تفكيرهم وأدوات تحليلهم للصراع وانخرطوا فيها بنحو من الأنحاء. نحن لسنا شلة برجوازية ولسنا أصحاب مصالح مرتبطة بأطراف الحرب. نحن تنظيم قومي وطني وحدوي، لذا من الصعب أن ننحاز إلى أي طرف من أطراف الصراع.
الحرب الحالية وفقًا لتصوراتنا ليست ابنة المشروع الوطني، هي ليست في سبيل التأسيس أو العدالة الاجتماعية، بل يقودها جنرالات مغامرون، وما تسبب فيها من منفستو "الاتفاق الإطاري" هو مشروع خارجي، وما الناس والممتلكات التي صارت نهبًا للسلب إلا وقودًا مباشرًا لها. لقد تساءلت ببساطة: "الناس دي متشاكلة في شنو؟" دون أن أجد إجابة في ظل حالة التحشيد أو حتى تصور واضح إزاء الغاية من القتال هنا وهناك. كل ما في الأمر: جنرالات مغامرون وساسة يتصفون بالهشاشة الأخلاقية والفكرية حولتهم إلى محض مرآة للعسكريين والمشروع الخارجي. وقوفنا ضد الحرب لأننا نخاف على البلد وعلى وحدتها وعلى سيادتها، وحريصون على تماسك المجتمع، ونخاف أيضًا على الجيش –المؤسسة الوطنية– فالأثمان الباهظة التي يدفعها أمنيًا ولوجستيًا تزيد من إرهاقه وإنهاكه واستهلاكه السياسي من قبل الأنظمة المتعاقبة على السودان.
الحرب هذه لن تفضي إلى انتقال وإعادة تأسيس إلا إذا نهض المثقفون والمناضلون السياسيون بأدوارهم، وأعدنا توجيهها في المسار المضاد لمرادات القوى المتربصة بالسودان. وكان يمكن تفادي هذه الاشتباكات المدمرة بمشروع سياسي بسهولة ويسر. أُجمِل القول في أن موقفنا ليس على الحياد، لكنه مؤسس على الانحياز إلى الناس وآلامهم وتطلعاتهم، وبالنظر إلى آثار الحرب وما خلفته من دمار ولجوء ونزوح وإهدار مئات المليارات من الدولارات وتهديد أكثر من نصف سكان البلد بالمجاعة وانعدام الأمن الغذائي، كل ذلك وغيره يجعلنا مطمئنين إلى ما اتخذناه من موقف.
3. كيف تفسّر نزوع كثير من أعضاء منظومتكم السياسية إلى التحيز إلى أحد المعسكرين المتقاتلين؟ ألم تسعف تصورات الأيديولوجيا تعقيدات الواقع؟
الحرب كما تعلم هي أكبر الاختبارات الوجودية التي تتعرض لها البشرية في حيز ما وزمان ما. وحرب الخامس عشر من نيسان/أبريل تحديدًا كما فصلنا في طبيعتها المركبة أكثر الأحداث تأثيرًا في المنظومات السياسية. ستجد أن حركة مثل الحركة الإسلامية أصابها تشظٍ بالغ بسبب هذه الحرب، وكادت أن تنقسم على الهوية بين أولاد البحر وأولاد الغرب، وستجد الأمر نفسه في حزب الأمة. هناك منظومات لم تتأثر بسبب تموضعها في خارطة الجغرافيا الاجتماعية مثل الحزب الشيوعي الذي يغلب على أفراده انحدارهم من الشمال النوبي. لقد حاولنا فور اندلاع الحرب أن نفعّل اللائحة عوض أن نجمدها كما تفعل التنظيمات في زمان الاستثناءات، بيد أننا أجرينا كما أسلفت حوارات داخلية مكثفة خرجنا منها بورقة "وصف الصراع"، وألزمنا عضويتنا بها باعتبارها موقفًا ثابتًا للتنظيم، يصدر كما قلت عن مشكاة أيديولوجية صلبة لا تقبل القسمة على اثنين. وطبقناها بذات القوة والعنفوان، باعتبار أن مناط الالتزام ينبغي أن يختبر في الأوقات العصيبة، ولذا لم نتوان في تطبيق اللائحة على العضو المخالف.
إن كان من تفسير لهذه الظاهرة، فهو أن بعض الناس يعاني من ضعف في التزامهم الأيديولوجي أو تربيتهم التنظيمية، وعليه فإن من استبعدوا بسبب مواقفهم لديهم حججهم ومسوغاتهم التي يمكن أن يؤخذ حولها ويرد، لكن التنظيم في النهاية تنظيم.. هو فكرة تؤمن بها ونظام أيديولوجي يحكم موقفك في الشأن العمومي. وفي ظل الصراع الحالي وطابعه المركب وبنيته المعقدة يصبح الالتزام بنظام التفكير أوثق وأكثر ملموسية. ولأننا تنظيم قومي وحدوي، فلن نتسامح مع التحيزات ذات الطابع المناطقي والجهوي، وهي آفة قديمة في التنظيمات، وما تتسم به من مهادنات حيال التكتلات المناطقية ضرب الآصرة التنظيمية في مقتل كما فعلت بالحركة الإسلامية السودانية وتجربة القوميين العرب في المنطقة عمومًا.
4. التقيتم مع الحرية والتغيير في حياد ملتبس إزاء الحرب القائمة.. هل من فرق بين حيادكم وحيادهم؟ ومتى ينبعث الانحياز إذا غاب في حروب التأسيس؟
كما أسلفت في الإجابة عن السؤالين الأول والثاني، نحن لسنا محايدين، نحن ضد الحرب من خلال انحيازنا إلى مصالح الإنسان السوداني وحماية مجتمعه من مخاطر التشظي ودولته من مصائر التفكك. وبإمكانك أن تمايز بين موقفينا من الحرب، فالحرية والتغيير حليف إستراتيجي لقوات الدعم السريع، حليف سياسي وأيديولوجي بحكم مشروع الاستعمار الجديد على السودان الذي ينشط فيه كلٌ حسب دوره. الحرية والتغيير هي منتج نيوليبرالي من حيث خطابها وشعاراتها ومن حيث ارتباطاتها ومقولاتها ونزوعها وتحركاتها، وكذلك الدعم السريع في جانبها المؤسسي باعتبارها شركة تعاقدية تخدم الاستعمار الجديد. وإذا كانت الحرية والتغيير تقوم بالدور الناعم –الثقافي والقانوني– فالدعم السريع تقوم بالدور العسكري الصلب أو كما أسموه ضرورة استبدال القوة الخشنة للدولة العميقة. وحالة التناغم بين الحرية والتغيير والدعم السريع تجعلهما في اصطفاف وثيق يصبح معه الحياد المرئي للناس أمرًا غريبًا، ولو كنا نحن في موقعهم لقاتلنا إلى جانب الدعم السريع.
وبعيدًا عن دمغ الحرية والتغيير بما ليس فيها، فإن التقارب الذي أملته مفاعيل مرحلة ما بعد ديسمبر تظهر إلى أي مدى كان هناك ترابط بينها والدعم السريع (انظر مثلًا إلى التنازلات التي بذلت لقادة الدعم السريع في ملف السلام والاقتصاد من الحرية والتغيير). أما نحن فلم نتقاطع مع الدعم السريع على أي مستوى في السياسة أو الثقافة أو الاقتصاد. وأيًا يكن من أمر، فيظل تشبيه حيادنا بحياد الحرية والتغيير ضربًا من البروباغندا الموجهة والتي تتناقض مع توصيفنا في ورقة الصراع للدعم السريع بوصفها جيشًا تعاقديًا يقدم خدمة للإمبريالية العالمية ويؤسس لإشكاليات بنيوية مضادة للحالة القومية والوحدوية باعتبار أن قادتها ذوي طابع إثني ومناطقي، وارتباطاتها الخارجية وتمويلها ودعمها، كل ذلك يجعلنا نرفض التقاطع أو التعامل مع الدعم السريع. ربما يفسر البعض خطابنا بأنه مهادنة للدعم السريع، لكن على العكس تمامًا فإن موقفنا مؤسس على ضرورة الفهم والتأطير النظري وطرح التوصيف الصحيح قبل الشروع في المعالجة. إن موقفنا من الدعم السريع سيظل راديكاليًا وحادًا حتى ولو قدر له التفوق سياسيًا وعسكريًا على الجيش، وسنكون أول المعارضين لـ"سلطته القادمة" إن حدث ذلك – تجاوزًا.
5. أثار تعليقكم بشأن السيارة "اللكزس" ردود أفعال متفاوتة عدها بعض الناس موافقة ضمنية لأفعال السلب والنهب الواسعة التي صاحبت الحرب.. هل يمكن أن نعد "اللكزس" برمزيتها "الليبرالية" على نحو ما بين توماس فريدمان في كتابه (اللكزس وشجرة الزيتون) – أن نعدها امتيازًا غير مستحق للقوى الإرثية التي تنادي بالثورة على امتيازاتها؟
الإجابة عن هذا السؤال تشمل أكثر من مستوى، الأول منها أن لدي خلفية كافية عن مالك السيارة وكيفية حصوله عليها، ولدي معلومات تفصيلية ليس هذا مجال التطرق إليها، وسبق أن واجهته وتحديته بالتعليق بالنفي على ما ذكرته في قضية السيارة. السيارة "اللكزس هنا رمز حقيقي للفساد المؤسسي الذي عانى منه الشعب السوداني، هي قصة حقيقية ومرموزة تعكس واقع التفاوت في الخرطوم وما يحدث من نهب غير ذاك الذي تقوم به قوات الدعم السريع إذ نلحظ أحياء كاملة تقوم بنهب أحياء كاملة، وهو شاهد على التفاوت الطبقي والاجتماعي المتناسل من اختلال بنية النموذج التنموي وإدارة الاقتصاد وتوزيع الخيرات العامة. كلامي عن السيارة "اللكزس" كان محض إشارة قصدت عبرها التنبيه إلى واقع الاختلالات واختلالات الواقع، لكن طبيعة الخطاب التحشيدي أعاد توظيفها في غير محلها وبخلاف علتها المقصودة.
6. كيف ترى الخطاب المنتشر في ثنايا الحرب حول القضاء على "دولة 56"؟ وهل في مقدوره أن يعطي تفسيرات لما جرى في الجنينة وبعض النقاط الملتهبة في فضاء الهامش؟
محاولة قوات الدعم السريع منح ما تقوم به شرعية أخلاقية ومشروعية سياسية من خلال الإشارة إلى أنها تقاتل ضد الأوضاع المختلة اجتماعيًا والموروثة من اللحظة الاستعمارية – تجعلنا نسائل هذا التنظيم وطبيعته وخطابه ومدى تجسد الشروط المتعلقة بنزوعه القومي والتقدمي والوحدوي ينطلق من خطاب وفلسفة ونظام أخلاق يلتزم به في ممارساته، وكل ذلك غير متوافر لدى الدعم السريع، فهي لا تعدو أن تكون مليشيا أسرية تطورت نتاج أخطاء متعلقة بطريقة عمل الأجهزة الأمنية الرسمية بالدولة ونتيجة مضاغطات السلطة في نهاية نظام البشير، وازدادت قوتها عندما تحولت إلى جيش تعاقدي يقدم خدمات أمنية مدفوعة القيمة مثلما حدث في ليبيا واليمن، فضلًا عن الخدمات التي يقدمها إلى الاتحاد الأوروبي. قوات الدعم السريع تفتقد إلى القومية، فهي مليشيا أسرية وليست حتى قبلية، ومهيمن عليها من "خشم بيت" في مجموعة إثنية في السودان. الدعم السريع غير مؤهلة لانتقاد بنية السلطة ما بعد الاستعمارية. أنا أناقش كثيرًا منهم وأدرك عدم وجود تصور لنموذج اقتصادي وسياسي مضاد لما هو قائم. الكلام عن الديمقراطية يجعلنا نسائل بنية الدعم السريع نفسها، أهي بنية ديمقراطية أو حتى بنية حداثية؟ لقد لاحظت أن الدعم السريع تعيش حالة توهان خطابي مريع، فمرة يرفعون شعارًا برجوازيًا كالتحول الديمقراطي، ومرة شعارات مناطقية مثل شعار الصراع مع "الجلابة"، وأحيانًا ينحدرون أكثر في المنطق القبائلي والمناطقي، وأحيانًا يقدمون أنفسهم وكيلًا للقوى العالمية في صراعها مع الإرهاب. حالة التوهان هذه جعلت الدعم السريع تلفق خطابًا "يلقطه" من مصادر معرفية دون أن يصيغه. المصدر الذي يمكن أن أحاكم الدعم السريع من خلاله مقال مشوش ومضطرب نشره يوسف عزت على "فيسبوك" حاول أن يقدم عبره خليطًا من مغالطات فيها من ادعاءات المظلومية ما فيها ومن ادعاءات الثورية كذلك، فالدعم السريع ليست مؤهلة نظريًا ولا من حيث بنيتها الاجتماعية ولا من حيث ارتباطاتها ولا من حيث طريقة عملها لتبني ادعاء ثوري بهذه الضخامة. وإشارتك إلى ما حدث في الجنينة يوضح أنها تنظيم رجعي اثني يضع نفسه مقابل جماعات عرقية وقبلية، وهو ما يجعلنا نؤكد على عدم أهلية الدعم السريع لتبني هذا الادعاء.
7. كيف ترى الدعم السريع وفق منظورك للقوى الإرثية؟ أهي ابنة التهميش الصاعدة إلى صدارة الاعتبار والامتياز السلطوي والاقتصادي أم حارسة هذه الامتيازات التاريخية؟
مفهوم القوى الإرثية هو بديل نقدي قائم على إعطاء الأولوية لطبيعة التشكلات الاجتماعية والتاريخية في السودان في مقابل أطروحة اليسار الماركسي الذي يرد التفاوت المجتمعي إلى نظام العمل الرأسمالي وعلاقاته، وهو في نظرنا نموذج تحليل إسقاطي لا تاريخي مستمد من تجارب وسياقات مختلفة، وحتى لا نصدر حكمًا إطاحيًا عامًا أو نصادر على المطلوب، نؤكد أن هناك تيارات داخل اليسار تراجع موقفها النظري. وبذات الدرجة مفهومنا في القوى الإرثية مطروح في مقابل التحليل الثقافي الذي تتبناه جماعات السودان الجديد عبر تأويلات مختلفة، وبالتحديد كما يطرحها أبكر آدم إسماعيل في جدلية الهامش والمركز والدكتور محمد جلال هاشم في كتابه التحليل الثقافي.
وبخلاف ما ذهب إليه اليسار الماركسي في تحليل الأوضاع في السودان، بأن طبقات بعينها أفادت من تراكم فائض القيمة لصالح البرجوازيين وملاك رأس المال ضمن تناقضات علاقات العمل وما تصنعه من تفاوت، يستتبعه امتياز سلطوي ومعرفي وجمالي، على نحو ما تقرر المعالجة النظرية الماركسية. في مقابل بروز أطروحة تغلّب –كما أسلفت– العامل الثقافي في سياق ما تمثله رؤية كل من محمد جلال هاشم وأبكر آدم إسماعيل، وهي تنويعة من النقد ما بعد الاستعماري كما هو معلوم والتي ترد واقع الامتياز السلطوي إلى تحول الثقافة الإسلام/عروبية إلى أيديولوجية سلطوية مهمتها تبرير التفاوت والقمع والسيطرة. الأطروحتان دون أدنى مراء يشغلان حيزًا في النقاش العمومي، ما دفعنا إلى تقديم مقاربة مختلفة في إطار اشتباكنا النقدي معهما. وبخلاف ما سبق، نرى أن السلطة بمفهومها الواسع (الفوكوي) لم تنشأ باعتبارها نتاجًا لنظام العمل الرأسمالي، لأسباب تتعلق بعدم اندراج السودان تاريخيًا ضمن التشكيلات الاجتماعية الرأسمالية، كما تؤكد قراءة مستبصرة في هذا المسار، وأن الرأي المتعلق بحدوث الامتياز وفق أطروحتي المركز والهامش أو التفسير الماركسي يقفز على كثير من الوقائع التاريخية والشواهد العيانية بحسبان أن الهيمنة الاقتصادية والسلطوية لم تأت ثمرةً لتوظيف نظام العمل الرأسمالي ولم تخلق بيئة إنتاج تعزز به امتيازها الاقتصادي، كما أن أصحاب الامتياز ليسوا جماعات عرقية ومناطقية يعبرون عن مركز ثقافي مهيمن.
القوى الإرثية هي ظاهرة عابرة للثقافة والعرق والمنطقة، هي ليست طبقة بالمعنى الماركسي وليست جماعة بنحو ما يذهب أنصار التحليل الثقافي، بل هي ظاهرة ارتبطت باللحظة الاستعمارية وتشكل الدولة الحديثة، وارتبطت بنظام الهيمنة الذي شهده سودان الحقبة الاستعمارية وأدواته المكونة من رجال الإدارة الأهلية وقادة الطرق الصوفية وكبار بيروقراطية الدولة وزعماء الطوائف ووكلاء الحكم المحلي، وقد مكّن لهم الاستعمار ومنحهم امتيازات واسعة وبسط لهم أدوات السلطة والهيمنة على المجتمع. لقد نشأت القوى الإرثية في كنف السلطة الاستعمارية وحولت الدولة إلى غنيمة، ولم تستفد من نموذج العمل الرأسمالي ضمن تركيبتها الاقتصادية، ولم تتصف من حيث بنيتها الاجتماعية ومن حيث الإطار الثقافي بتموضعها داخل سياق ثقافي واجتماعي محدد. القوى الإرثية هي عائلات استفادت من النموذج التنموي الاستعماري وتحالفت مع مشروعه. وإن أردنا التمثيل للمقاربة فمن الممكن أن نعد أسرة داؤود عبداللطيف والد أسامة داؤود خير أمثولة لتطور القوى الإرثية في السياق ما بعد الاستعماري. أمر آخر هو أن القوى الإرثية لا تملك ثقافة واحدة وأيديولوجية واحدة، ففي فترة ما من تاريخ تطورها تبنت القوى الإرثية أيديولوجيا الأفندي ثم الأيديولوجية الإسلامية في مرحلة "الإنقاذ" ثم ها هي في مرحلة ما بعد ديسمبر تستمد ثقافتها من الترند العالمي لمنظومة الثقافة الرأسمالية في تجليها العولمي. القوى الإرثية استثناء سوداني يمكن أن ينطبق إلى حد ما على الدول الخليجية، لكنها على نحو أكثر ضبطًا وتدقيقًا نشأت في سياق الجنوب الكوكبي.
مفهوم القوى الإرثية عابر للتاريخ وليست إطارًا استاتيكيًا جامدًا يقارب تفسير جذر نشوء الامتياز واستمراره، ومن هنا أتت كلمة "إرثية" باعتبار أن الهيمنة داخل حواضنها تحفظ وتتناقل عبر الأجيال، ففي العهد الوطني تشكل ما أسميناه "النادي الإرثي"، به أعضاء رئيسيين، مثل: أبناء زعماء الطوائف الرئيسة وكبار رجال الأعمال (ستجد في كل حدث ثوري تداعي مباشر من عائلات البرير وإبراهيم مالك وداؤود عبداللطيف، بغرض خلق التسويات اللازمة لاستمرار المصالح الاقتصادية واسئتنافها ضمن شروط الحقبة الجديدة). ومع ظروف الانتقال والاستثناء تلج مجموعات جديدة إلى النادي الإرثي لـ"تغز عودها". مثلًا "الإنقاذ" كانت لحظة انتقال كبيرة وشهدت أكبر دخول لوافدين في نادي القوى الإرثية لأنها أكثر حقبة تحولت فيها الدولة إلى غنيمة وأداة للثراء ومصدر امتياز (انظر فقط إلى الفرص المصنوعة وغير المستحقة في آن والتي رفعت أقوام وخفضت آخرين بموجب التصديقات التي تمنح لأفراد بعينهم أو امتيازات توريد السلع الإستراتيجية أو الاستفادة من معلومات الاستثمار على نحو مخصوص).
أخلص من هذا الشرح والاستطراد إلى تقرير أن الدعم السريع وافد جديد للقوى الإرثية، فمن حيث تركيبتها هي عائلة، ومن حيث إطارها الأيديولوجي والخطابي والنظري هي ظاهرة سلطوية تستدعي أي خطاب لتعيد إنتاج نفسها كما تفعل القوى الإرثية تمامًا، ومن ناحية أخرى أفادت من لحظة الهشاشة والاضطراب "الإنقاذية" وتمكنت اقتصاديًا وعسكريًا، وحافظت على الامتياز عبر آلية الإرث والدليل ما تكشفه طرق إدارة الشركات والاستثمار داخل منظومة الدعم السريع وحصرها في آل دقلو. وعليه لا يمكن أن تكون قوى الامتياز الإرثي منطلق للمطالب الثورية حسب ما تزعم.
8. علت مؤخرًا النبرة القبلية والمنطق المناطقي والجهوي بين (دولة البحر والنهر) ومشروع (عربان الشتات) والحشد باسم (قبائل العطاوة).. إلى ماذا تعزي هذه النزعات؟ أهي فشل في تحديث الدولة أم إدارة التنوع وفق عبارة حاج حمد "وحدتنا سطحية في تباين عميق"؟
هذا مؤشر انحطاط عام على المستوى الحضاري والسياسي والثقافي بل وحتى الأخلاقي، ولنفسره لا بد من أن نرده إلى أسبابه الحقيقية المتعلقة بلحظات الاستثناء التي نجتازها بصعوبة. لغرامشي مقولة سارت بها الركبان وهي أن العالم القديم لم ينتهِ تمامًا والجديد لم يبرز بعد، وفي ظل العتمة تظهر الأشباح؛ وهذه الظاهرة من أوجه الأشباح التي تشكلت في أنماط مختلفة كظهور مثقفي المنظمات وناشطي المجتمع المدني، ومن ذلك الناشطين القبائليين، وهي ظاهرة لم تنبت في الفراغ، إذ نستطيع تحديد سياقاتها الظرفية، وأصلها الفكري والإعلامي والتاريخي مرتبط بالاستعمار. وأنا حين أحيل إلى الاستعمار أفعل ذلك لأننا في مجملنا كائنات ما بعد استعمارية حسب ما يقول وائل حلاق، لأن العالم الذي نعيشه ووعينا به ونمط إنتاجنا مصنوع ولم ينتج كتطور طبيعي لمجتمعاتنا، فأحد أبرز تجليات الاستعمار تسييس القبيلة ومنحها سيادة على الأرض وسلطة رمزية وفعلية ليتجاوز تبعات الإدارة المباشرة، كما أحلت في إجابة سابقة إلى ممداني. وقطع الطريق أمام أي اتجاه ثوري يستدعي التراث المحلي في مقاومة الاستعمار كما فعلت المهدية أو أي تضامن اجتماعي للمشروع الاستعماري. هذا التسييس وخلق هويات سياسية متناقضة ومنح رجالات الإدارة الأهلية سلطة سياسية أثمرت لاحقًا في الاتجاه المشار إليه، ومما يمكن الاستشهاد به انفصال الجنوب واندلاع أزمة دارفور، وهي أمور متشابكة داخل البنية الاجتماعية وعلاقات السلطة والنموذج الاقتصادي.
صعود النبرة القبائلية والنعرات المناطقية والعرقية يعد أيضًا من تقنيات الاستعمار الجديد لتفكيك النسيج الاجتماعي وخلق كنتونات متصارعة تمهيدًا للسيطرة عليها وتوجيهها عبر تنصيب جنرالات حرب وقادة مناطقيين، ويترافق هذا الأمر بدرجة أعمق بسياسات الهوية التي أنتجتها فلسفة ما بعد الحداثة والاعتراف بالعرق والثقافة والطبيعة على حساب الأيديولوجيا والأفكار والقيم، وهو اتجاه خدمته مؤسسات أكاديمية ومنظومات وأحزاب، ويمكن أن نعد تيار السودان الجديد جزءًا منه، وتيارات الأفريقانيين الجدد والقوميين الجدد بالمعنى الإثني مثل جماعة "البحر والنهر". للظاهرة أيضًا علاقة بالميديا بوصفها مسرحًا لاستعراض الذات الثقافية والعرقية واللون والشكل والمظلمة. فضاء الميديا أسهم في تداول خطابات المظلومية لا خطابات الظلم والفرق كبير كما هو معلوم بين الأول الذي يؤسس لضحية دائمة وجاني دائم بخلاف الثانية التي يمكن أن تكون حركة مطلبية بناءة من أجل العدالة الاجتماعية.
أغلب أحزابنا أعادت تجييش ذاتها بإعادة تعريف نفسها ضمن شروط المنطق المناطقي تحت ضغط هذا الخطاب وسياقاته ودلالاته. هناك أمر متعلق بواقع الهشاشة بعد ثورة ديسمبر والخوف الوجودي الذي خلفته بسقوط المؤتمر الوطني باعتباره حزبًا يضم كل السودانيين على النقيض من الأحزاب المناطقية (الحركات المسلحة وجماعات السودان الجديد) أو أحزاب البرجوازية المدينية. وهي ظواهر تقرأ مع فقدان القادة الكاريزميين كالصادق المهدي والشيخ الترابي، في ظل بروز أنماط فجة من الانتهازية السياسية والنزعة السلطوية التي شهدها السودان مؤخرًا جعلها تستدعي القبيلة للوصول إلى واقع الاعتبار السلطوي وحشد العشيرة في خلفية ما يقدمه من خطاب لحرق المراحل والقفز على سلم الصعود السلطوي كما أسلفت، لقد باتت "التاتشر" رافعة أسهل من الأيديولوجيا والتربية التنظيمية وتوسل أساليب الإقناع والحجاج والمدافعة، مما أسهم في ارتفاع قيمة هذا النمط في سوق السياسة، كل ذلك بلا خطاب أو مضامين عن التنمية وأسئلة التعليم والصحة والعيش الكريم، فضلًا عن تقاطعها مع تحيزات الدولة الحضرية والتشكيل التاريخي للسودان ما بين العرقي والسياسي والطبقي، وهو موضوع دراسة معمقة.
9. كيف ترى المواقف الدولية على خلفية استقالة فولكر؟ وما هو مستقبل رهاناتها في السودان في مرحلة ما بعد الحرب؟
حقيقة الأمر من المؤسف ما يسمى بالمجتمع الدولي أو "القوى الإمبريالية" بحسب تعريفنا والتي عملت عبر مستويات متواصلة في السودان وأدوات مختلفة، منها ما هو عمل مدني تحت غطاء المساعدات أو دعم التحول الديمقراطي أو مناصرة الأقليات وحقوق الإنسان، أو في جانب عملها الصلب المتصل ببناء المليشيات ودعمها واختراق المؤسسات الأمنية وتوجيهها. نتيجة هذا الجهد هيمن وكلاء الاستعمار الجدد على المجال السياسي ما بعد "ديسمبر". قد يبدو هذا الحكم لكثيرين متطرفًا، لكن انظر إلى فرقاء المشهد الديسمبري وستجد لديهم صلات بالخارج سواء الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في السودان، ولا سيما قوى اليسار الجديد وتنويعات النيوليبراليين أو بعض الدوائر النافذة في القوى المحافظة وارتباطاتها بالإمبريالية الفرعية في الخليج العربي. وعليه فإن ذهاب فولكر أو بقاؤه لن يؤثر في سير المشاريع ونسق عملها المستمر والمكثف والمتواتر والذي بدأ بوضوح بالتزامن مع الثورة، وانتهى بنا إلى الحرب، والحرب نفسها حلقة من حلقات مشروع الاستعمار الجديد في السودان. لذا فإن استقالة فولكر لن تؤثر في المسار الإستراتيجي المخدوم والذي انفقت عليه ملايين الدولارات.
10. برزت إرهاصات مخيفة بشأن تقسيم البلاد التي لديها تجربة في الانفصال في مختتم العقد الأول من الألفية الجارية.. هل من نذر لتقسيم البلاد وتفكيكها إلى دويلات ضعيفة؟
هناك شواهد كثيرة لتقسيم السودان، ليس إلى دولتين فقط وإنما إلى دول كثيرة، خصوصًا مع تصاعد الانقسامية وأخذها طابعاً قبليًا في ظل اتسام بنيتنا الاجتماعية بما يمكن وصفه بالحالة الفسيفسائية، ويكفي أن المجموعات القبلية في السودان تتجاوز (500) قبيلة، حتى الجغرافيا مقسمة إثنيًا والسياسة نفسها مع حقبة "الإنقاذ" تورطت في المنطق القبلي، وأنشأت ولايات إرضاءً للمنطق المناطقي (انظر إلى صراعات شرق السودان وكردفان). التقسيم قادم ما لم تنهض القوى الوطنية والوحدوية والقومية وتستعيد للسياسة مضامينها الاجتماعية والاقتصادية وتعيد تعريف العدو لا كما هو متداول اليوم بسبب تسييس الهويات الجزئية، وإنما بالتوجه إلى من ينهب مواردهم ومن ينتوي استعمارهم من جديد والنظر إلى أرضهم باعتبارها مزارع للغذاء الذي يحتاج إليه العالمين الأول والثاني والتي تنظر إليهم بوصفهم أيدي عاملة رخيصة وجنود محتملين في جيوش المرتزقة القادمين في أفريقيا. عدوهم الجهات التي تعمل على تسييس انقساماتهم والاستثمار فيها وتأبيدها وجوديًا وقطع الطريق على أي تضامن بينهم.. وما لم تنهض المشاريع السياسية الوطنية، بما لها من مضامين ثورية يسارية اجتماعيًا واقتصاديًا، فسيظل شبح الانقسام يتهدد البلد وينذر بشرور مستطيرة ومستطيلة. أستطيع أن أقول إن الانقسام بات سمة عامة حتى للأحزاب والكيانات القومية كالحركة الإسلامية والحزب الشيوعي واصطفافهم بحسب التحيزات المناطقية سواء للدعم السريع أو الجيش (انظر إلى طبيعة الاستجابة للاستنفار؛ لا شك في أن المنطق المناطقي حاضر بامتياز. وانظر إلى الخطاب الإعلامي، كل الأجواء والمناخ المحيط بالحرب تذهب في تعزيز الانقسام والتفكيك ومشروع التخريب الجاري والذي عملنا ضمن شركاء وطنيين في مرحلة سابقة لتفاديه والتحذير منه، لكن مع الأسف حتى شركاؤنا أعادوا إنتاج ذاتهم في الحرب وانخرطوا ضمن منطقها وشروطها المناطقية).
الشواهد السلبية متكاثرة ومتكاثفة، لكن الأمل يظل موجودًا ومقرونًا بالعمل، وهذا ما نسير إليه في جهودنا وتحركاتنا المحدودة والمحاصرة بالضرورة، لأننا تنظيم لديه مقدمات ونظام تفكير أيديولوجي ونظري صارم جدًا لا يسمح لنا بالتحرك خارج النطاق الوطني. أرى أن من المصالح المباشرة للسودانيين أن يوحدوا نضالهم من أجل مستقبلهم ومستقبل أبنائهم. وليمنعوا الكوارث المتعلقة بانتهاب ثرواتهم وممتلكاتهم وأصولهم ومواردهم وتحويل أبنائهم إلى مرتزقة، فإن السبيل الوحيد هو طريق الوحدة والعدالة والاستقلال والسيادة. أي ادعاء عرقي ديني جندري هوياتي هو محض لغو فارغ، وهو جزء من المنطق الثقافي لمشروع الاستعمار الجديد الذي يسعى لتفكيك الوحدة الوطنية والقضاء على السيادة والدولة الوطنية باعتبارها شرطًا ضروريًا لعمل العولمة واجتياحاتها. وأوثق دليل على ذلك ما حدث خلال الأربع سنوات السابقة، والعيان يكفيك عن خبر.
11. ما هو أفق الحل في رأيكم؟ كيف ننهي الحرب عوض أن نخرس صوت المدافع؟ أين وكيف ومتى يمكن أن يحدث ذلك؟
الحل يبدأ من التعريف والتوصيف والتفسير. هذه بدرجة ما نهاية التناقضات وأزمات الدولة الوطنية التي ليس لها مفهوم بديل حتى الآن. نحن مضطرون إلى العمل على معالجة اختلالاتها لأنها هي الإطار الوحيد الذي يوفر لنا حماية في ظل التوحش الكوني الحالي.
الحل يبدأ بالضرورة بالنقاش في الأمور الفنية ووقف العدائيات ثم وقف إطلاق نار دائم ثم الانتقال إلى إعادة إنجاز الأمور الفنية بالحرب في صورتها المباشرة، لكن الحل في مستوى أعمق ينبغي أن يشمل كل أبعادها الاجتماعية والاقتصادية التنموية والسياسية والجيوسياسية والثقافية، وينبغي أن تنصرف جهودنا إلى مناقشة قضية الجيش والتركيبة الأمنية في السودان في سياق صورة كلية تتواضع وتتوافق على رؤية وطنية تساهم فيها كل القوى الفاعلة في المجتمع، من أحزاب وقوى مدنية وقوى أهلية ومثقفين ومؤسسات أكاديمية ومؤسسات فنية ورياضية وكل وجوه المجتمع – تساهم من مواقعها المختلفة، والوصول إلى تسوية وطنية، واستبعاد النهج الثنائي الذي قسم السودان في محطة نيفاشا والذي تناسل في أشكال التفاوض حتى اتفاق جوبا الأخير. على القوى الوطنية الحية والتي تعبر عن مصالح المجتمع أن تشارك بأوزان صفرية واستلهام ما يمكن تطبيقه من أنماط الحوار المختلفة مائدة مستديرة – مؤتمر دستوري. الأهم من ذلك المضامين التي سيلتقي حولها الناس ويتحاورون في سبيل تأطيرها.
أرى أن يتحرك النقاش بشأن إيقاف الحرب ضمن صيغتين: صيغة محلية وأخرى إقليمية تتعلق بإجراء إيقاف الحرب ومراحله ومصفوفاته والتي لا بأس في أن تنطلق من جدة كما هو جارٍ، لأنها هي المنابر الوحيدة المتاحة والقادرة على دفع المتقاتلين نحو السلام، بيد أن الصيغة المحلية الضرورية ينبغي أن تنطلق من العدالة الانتقالية بطابعيها الجنائي والسياسي، والبحث عما أسماه ممداني عدالة الناجي لا عدالة الضحية، لأننا نرنو إلى الانتقال إلى أفق جديد وتأسيس جمهورية جديدة. وينبغي للقيم والمبادئ الحاكمة أن تدور حول الوطن وحمايته والحفاظ على وحدته وإنصاف المظلومين فيها. هناك قضايا تفصيلية، مثل وضعية الدعم السريع، والإفادة مما حدث في المبادرة الخليجية المتعلقة باليمن (لا بأس في أن يكونوا ضمن المشهد لأنهم يعبرون عن قوة اجتماعية بصيغة سياسية). نقاش العدالة وجبر الضرر ومعالجة آثار ما خلفته الحرب في إطار الرؤية الوطنية وإعادة بنائها، وحسم نظام الحكم عبر الانتقال إلى الشرط الديمقراطي والمشاركة في تقرير مصيرهم وليس أن تنتهب الفرص من مغامر عسكري أو يأتي محمولًا على قداسة نسب أو صاحب مال. لا بد من إعادة السلطة إلى الشعب واستعادة الاعتبار له.
معمر موسى لـ"الترا سودان": هذه هي قضايا الانتقال الجوهرية أما القضايا الفنية فالاتفاق عليها ميسور لأن الحرب لن تكون طريقًا مناسبًا لحل الإشكالات المعقدة
هناك ضرورة للتأكيد على نمط حكم محلي وفيدرالي بالتوازي مع إنضاج الوعي القومي، وبحث نظام الحكم وشكله وصيغته وإنفاذ حكم القانون والدستور وإنجاز الملفات العالقة منذ الاستقلال بخصوصها مع ضرورة التركيز على محورية العدالة الانتقالية ذات الحضور حتى في الحرب الاجتماعية الراهنة. لا بد من إصلاح واقع التفاوت والظلم الاجتماعي –فلم تعد الوعود نافعة حيال الإشكالات الحقيقية وفق مناهج التنمية البشرية– والذهاب إلى تمكين الناس من الاستفادة من الخيرات العامة مع ضرورة حسم الجيوش وإعادة تحديثه على نحو موحد ومهني –بالمعنى الممتلئ للكلمة– خاضع لإرادة المؤسسات التشريعية وسلطة الدولة، وليس جيشًا تقوده كتلة أو أسرة، مع ضرورة حسم قضايا الأمن القومي والعلاقات الخارجية وتوجهها ومسألة الهوية والقوميات ومراجعة الخدمة المدنية وإدارتها. هذه بنظري هي القضايا الجوهرية التي يقوم عليها الانتقال أما القضايا الفنية فالقناعة بالاتفاق عليها ميسورة لأن الحرب لن تكون طريقًا مناسبًا لحل الإشكالات المعقدة كما أسلفت.